في هذه الدراسة يوضح الشيخ
صالح الفوزان معنى الغلو وصوره ويوضح في مقابل ذلك التساهل الذي
يؤدي الى التفريط فيما ينبغي الحرص عليه ويؤكد ان من يوكل اليهم
الامر في تحديد مفاهيم الغلو والتساهل هم العلماء المختصون ..
فبدأ حديثه عن الغلو، قائلاً:
"الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى اله
واصحابه ومن اهتدى بهديه وتمسك بسنته وسار على نهجه اما بعد: فان
الله امر بالاستقامة والاعتدال ونهى عن الغلو والانحلال فقال
سبحانه لنبيه والمؤمنين معه: {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك
ولاتطغوا إنه بما تعملون بصير} فالامر بالاستقامة من غير طغيان,
والطغيان هو الغلو الذي يخرج عن الاستقامة, كما انه نهى عن التساهل
والاخلال في امور الدين بالنقصان منه فقال سبحانه: {فاستقيموا اليه
واستغفروه} اي اطلبوا منه المغفرة لما يقع منكم من تقصير ومن إخلال
بالاستقامة بالنقص من اتباع اوامره واجتناب نواهيه لان الانسان محل
الخطأ والتقصير فهو بحاجة الى الاستغفار من ذلك, وهذه الامة وسط
بين تساهل اليهود وغلو النصارى في العبادة قال تعالى: {وكذلك
جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم
شهيدا} والتساهل قد يكون بترك الواجبات وفعل المحرمات واتباع
الشهوات, والغلو هو الزيادة في التدين عن الحد المشروع مأخوذ من:
(غلا القدر اذا ارتفع ماؤه وفار بسبب شدة الحرارة) ويقال: غلا
السعر اذا ارتفع عن الحد المعروف, والغلو قد يكون في الاشخاص بأن
يرفعوا فوق منزلتهم ويجعل لهم شيء من حق الله في العبادة كما غلت
النصارى في المسيح عليه السلام فقالوا: هو ابن الله او هو الله او
ثالث ثلاثة فعبدوه مع الله, ولهذا قال نبينا صلى الله عليه
وسلم:(لاتطروني كما اطرت النصارى ابن مريم انما انا عبد فقولوا عبد
الله ورسوله) وكما غلا قوم نوح في الصالحين فعبدوهم من دون الله:
(وقالوا لاتذرن آلهتكم ولاتذرن ودا ولاسواعا ولايغوث ويعوق ونسرا)
وهذه اسماء رجال صالحين كانوا فيهم ولهذا نهى نبينا صلى الله عليه
وسلم امته من الغلو في الصالحين والبناء على قبورهم واتخاذ قبورهم
مساجد لان هذا يؤول الى عبادتهم من دون الله كما نشاهده اليوم من
بناء لأضرحة على القبور وعبادة الاموات من دون الله والاستغاثة بهم
في الشدائد, وقد يكون الغلو في عبادة الله والتقرب اليه ولهذا قال
تعالى: {يا اهل الكتاب لاتغلوا في دينكم غير الحق ولاتتبعوا اهواء
قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل} ولما
بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ان ثلاثة نفر قال احدهم انا اصلي ولا
انام, وقال الثاني: انا اصوم ولا افطر, وقال الثالث: انا لا اتزوج
النساء غضب النبي صلى الله عليه وسلم وتبرأ من فعلهم واستنكر ذلك
وقال: (اما انا فأصلي وانام, واصوم وافطر, واتزوج النساء, ومن رغب
عن سنتي فليس مني) وقد يكون الغلو في الحكم على اصحاب الذنوب
الكبائر التي هي دون الشرك فيحكم على اصحابها بالكفر والخروج من
الملة كما فعلت الخوارج من هذه الامة فكفروا اصحاب الكبائر التي هي
دون الكفر والشرك وكما قال رجل ممن كان قبلنا لرجل يراه يرتكب بعض
الذنوب فقال: والله لايغفر الله لفلان. فقال الله تعالى: (من ذا
الذي يتألى علي ان لا اغفر لفلان اني قد غفرت له واحبطت عملك) وقد
يكون الغلو في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر كما حصل من الخوارج
والمعتزلة حين غلوا في الانكار على ولاة المسلمين فخرجوا عن طاعتهم
وحملوا السلاح لقتالهم وشقوا عصا الطاعة وفرقوا الجماعة مما ترك
آثارا سيئة على الامة.
وقد يكون الغلو في التقليد الفقهي والحزبي وذلك بالتعصب لآراء
الائمة حتى تجعل كأنها وحي منزل لايجوز العدول عنها الى الرأي
الصحيح الراجح بالدليل كما هو حاصل لمن متعصبة الفقهاء, ومن قادة
الحزبيين اليوم الذين يتعصبون لجماعاتهم وحزبياتهم ويحذرون ممن
سواهم وان كان من سواهم على الحق, وقد يكون الغلو في الولاء
والبراء فيظن اهل الغلو ان البراءة من الكفار تعني تحريم التعامل
معهم فيما اباح الله مما فيه منفعة بدون مضرة ولا تنازل عن شيء من
الدين وانها تعني الاعتداء على المعاهدين منهم والمستأمنين بتفجير
مساكنهم وسفك دمائهم وقتل عوائلهم واتلاف اموالهم متناسين قوله صلى
الله عليه وسلم: (من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة) وقوله تعالى:
{وان احد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم ابلغه
مأمنه} وقوله تعالى: {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ان لاتعدلوا اعدلوا
هو اقرب للتقوى}"
إلى أن قال الشيخ موضحاً آثار الغلو:
"ان الغلو داء خطير, وشر مستطير له آثار قبيحة منها:
1- انه يجر الى الشرك بالله وذلك كالغلو في الاشخاص فانه يفضي الى
عبادتهم من دون الله كما حصل لقوم نوح لما غلوا في الصالحين, وكما
حصل للنصارى لما غلوا في المسيح, وكما حصل لعباد القبور من هذه
الامة لما غلوا في الاولياء والصالحين فأصبحت قبورهم اوثانا تعبد
من دون الله في كثير من البلاد حتى آل الامر الى أن من انكر ذلك
يعد من الغلاة الذين يكفرون المسلمين.
2- انه يحمل على تكفير المسلمين وسفك دمائهم كما حصل للخوارج من
هذه الامة حتى قتلوا خيارها كعثمان بن عفان وعلي بن ابي طالب وكثير
من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3- انه يحمل على الخروج على ولي امر المسلمين وشق عصا الطاعة
وتفريق كلمة المسلمين كما حصل ويحصل من الخوارج على مدار التاريخ,
وقد امر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل من يفعل ذلك في قوله: (من
جاءكم وامركم جميع على واحد منكم يريد تفريق جماعتكم فاقتلوه كائنا
من كان).
4- انه يزهد في السنة والوسطية والاعتدال وباعتبار ذلك تساهلا في
الدين والعبادة كما في قصة الثلاثة الذين تقالوا عمل النبي صلى
الله عليه وسلم.
5- انه يحمل على القنوط من رحمة الله كما حصل من الذي قال: (والله
لايغفر الله لفلان).
6- انه يسبب الانقطاع عن العمل الصالح, وقد يحمل على الزيغ
والانسلاخ من الدين فان النفس تضعف مع شدة العمل وقد تعجز او تمل
من العمل فتتركه ولهذا قال صلى الله عليه وسلم عن المتشدد في
الدين: (كالمنبت لاظهرا ابقى ولا ارضا قطع) وقد رأينا من هذا نماذج
في وقتنا الحاضر."
ثم تحدث الشيخ عن مقابل الغلو، وهو التساهل قائلاً:
"هذا ويقابل الغلو في خطورته وشره التساهل في ميوعته وضرره
فالتساهل في امور الدين لايقل خطورة عن الغلو بل هو شر منه ولهذا
قال تعالى: {والله يريد ان يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات
ان تميلوا ميلا عظيما} وقال تعالى: {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا
الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا الا من تاب وعمل صالحا}
فالمتساهلون يصفون المتمسكين بالدين والوسطية بأنهم متشددون وغلاة
ومتطرفون ويرون الاباحية والتحلل من الدين والاخلاق تقدما ورقيا
وحضارة ويقولون ان التمسك بالدين فيه كبت للحريات وعائق عن
الانطلاق مع الحضارة العالمية, وربما يقول بعضهم الدين يسر يريد
بذلك التحلل من شرائعه ونقول: نعم الدين يسر في تشريعاته ورخصه
الشرعية فهو يشرع لكل حالة ما يناسبها من حالة المرض والسفر والخوف
والضرورة لا انه يسر في التحلل من احكامه فهذا ليس يسرا وانما هو
حرج وإثم والنبي صلى الله عليه وسلم (ما خير بين امرين الا اختار
ايسرهما مالم يكن إثما) فالتيسير الذي يوقع في الاثم خروج عن سمات
الدين وهديه, وشرور الانحلال من الدين اشد من شرور الغلو فيه
وهؤلاء الجهال والمغرضون ليسوا هم الذين يبينون معنى الغلو وانما
الذين يبينون حدود الغلو والتطرف هم العلماء الاتقياء الراسخون في
العلم على ضوء الكتاب والسنة لا الصحفيون واصحاب الشهوات والجهال
او المتعالمون او اهل الضلال والله جل وعلا يقول: {فاسألوا اهل
الذكر ان كنتم لاتعلمون} ويقول جل وعلا: {قل هل يستوي الذين يعلمون
والذين لايعلمون انما يتذكر اولوا الالباب} فمتى خرجنا عن بيان اهل
العلم الى بيان اهل الاهواء واهل الضلال امعنا في الضلال والخطأ
واننا اليوم نسمع ونقرأ في وسائل الاعلام المختلفة اقوال من
يتكلمون في امور الدين وامور الغلو والتساهل وهم لايحسنون القول في
ذلك اما عن قصد سيئ واما عن سوء فهم يقولون حسب اهوائهم {ولو اتبع
الحق اهواءهم لفسدت السماوات والارض ومن فيهن} فيصفون التمسك
بالدين بأنه تشدد ويصفون المتمسكين بالدين وبالعقيدة الصحيحة بأنهم
متطرفون وغلاة - وهكذا فالغالي يرى ان المعتدل متساهل والمتساهل
يرى المعتدل غاليا ومتشددا - والحمد لله ان الله لم يجعل هؤلاء ولا
هؤلاء هم الذين يحكمون في هذا الباب وتقبل اقوالهم وانما وكله الله
الى العلماء الراسخين المعتدلين في حكمهم على ضوء الكتاب والسنة
ومنهج السلف الصالح لان الحكم بالغلو او بالتساهل حكم شرعي تترتب
عليه آثاره فلا يتولاه كل من هب ودب على حسب هواه لان ذلك قول على
الله وعلى رسوله بغير علم او بهوى - والعلماء - ولله الحمد قد
بينوا هذا ووضعوا ضوابطه قديما وحديثا في كتب العقائد وفي كتب
الفقه والواجب ان يقرر ويدرس هذا الحكم الشرعي بضوابطه للطلاب في
المدارس وحلق العلم".
نسأل الله ان يصلح شأن الاسلام والمسلمين, وصلى الله وسلم على
نبينا محمد واله وصحبه اجمعين.