عصمة القرآن الكريم وجهالات المبشرينبِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(1/4) بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(1/5) وإني كلما
تأملت هذا الهجوم الحاقد على الرسول الأعظم لم أجد له سبباً مقنعاً: لا
إنسانياً ولا أخلاقياً ولا عقيدياً ولا.... ولا.... لقد دعا - صلى الله
عليه وسلم - إلى أنقى صور التوحيد، وأكَّد أن رب الإسلام إلهَّ عادل رحيم
تسبق رحمتُه غضبَه، ويجازي على الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، على
حين لا يجزي السيئة إلا بمثلها، وكثيراً ما يغفرها، إلهَّ لا يكلّف نفساً
إلا وسعها، إلهّ لا يحاسب الأبناء بذنوب الآباء، إلهَّ يأخذ الناس
بنياتهم لا بمظاهر أعمالهم، إله أقبر إلى عباده من حبل الوريد، إلهَّ
يريد لهؤلاء العباد أن يسعَوْا وراء العلم وأن يستزيدوا منه وأن يفتحوا
عيونهم وقلوبهم لتأمل الكون وما فيه من جمال، إلهَّ يحب العمل والإنتاج
ويكره الثرثرة والكسل، إله لا يفرق بين البشر على أساس عرقي أو قومي أو
قَبَلي بل على أساس من إيمانهم وأعمالهم الصالحة، فالبشر عنده سواسية،
إلهَّ مفتّحة أبوابه ليل نهار للتوبة والحصول على الغفران دون وساطة من
أحد أياً كان ودون أية تعقيدات أو إراقة دماء بشرية، إلهَّ يحضّ على
العفو والتسامح ما أمكن، وإلا فليأخذ المظلوم حقه ممن ظلمه دون أي تثريب،
إلهَّ يُحِلً الطيبات ويحرَم الخبائث ... إلخ مما لو ذهبتُ أستقصيه ما
انتهيت.
(1/6) وتسامحاً،
وحُنُوًا على الضعف البشري، ورغبةً في تحويل هذا الضعف إلى قوة، وحضاً
على تحصيل أسباب الحضارة من علم وعمل ونظام وخُلُقٍ طاهر وذوق راقٍ،
وعدلاً في تطبيق القانون، وتوازناً في النظر إلى الدنيا والآخرة، والجسد
والروح، فالدنيا طيبة ما دامت من حلال، والطعام والشراب والعطر والنساء
مِنَنً من الله على عباده ليستمتعوا بها، ولكن بحقها وفي اعتدال ... وهلم
جرا. ترى ما الذي في هذا أو في ذاك مما يمكن أن يكرهه عاقل سليم القلب
مستقيم الضمير؟ وهل بعد رفض الدين الذين جاء به محمد يستطيع أي إنسان
عاقل سليم القلب مستقيم الضمير أن يجد ديناً يصلح لاعتناقه والعمل به؟
(1/7) ومما ظهر
في الفترة الأخيرة من كتب تهاجم الإسلام كتاب تافه صدر في النمسا سنة
1994م بعنوان "هل القرآن معصوم؟ " لشخص يتسمى باسم "عبد الله عبد الفادي"
(أو بالأحرى: العبد الفاضي) راح يهاجم القرآن في رعونة وجهل، ويتهم لغته
بالضعف والخطأ، ويحاول أن ينال من الرسول الكريم، الذي حتى لو صدقت كل
افتراءات هذا الكاذب الأفاك هو وجميع المبشرين والمستشرقين عليه - صلى
الله عليه وسلم - لكان من ذلك أفضل من أنبيائهم جميعاً حسبما يصور كتابهم
المقدس هؤلاء الأنبياء: فنوح يشرب الخمر حتى يسكر وينطرح على الأرض عريان
السوأة ثم يلعن حفيده كنعان لعناً شنيعاً لا لشيء إلا لأن حاماً أبا
كنعان هذا قد تصادف أن رآه على هذه الحال. وإبراهيم يتنازل عن زوجته
لأبيمالك خوفاً منه قائلاً إنها أخته، ولولا أن أبيمالك قد عرف حقيقة
الأمر في المنام لوقعت الواقعة. ولوط تسقيه ابنتاه خمراً حتى يفقد وعيه
ثم تنامان معه الواحدة بعد الأخرى لتحبلا منه. وموسى يقتل المصري عن عند
وسبق إصرار وقسوة إجرامية أصلية، وحين يختاره الله
(1/8) رسولاً
إلى فرعون يردّ عليه سبحانه في جلافةٍ غريبة أغضبته سبحانه عليه. وهارون
يصنع العجل الذهبي لبني إسرائيل ويبني له مذبحاً ويبارك عبادتهم له
وطوافهم ورقصهم جولة عراةً صاخبين. وداود يرى امرأة قائده الحربي من فوق
سطح قصره وهي تستحم عارية في فناء بيتها المجاور فيُحْضِرها إليه ويزني
بها ثم يتخلص من زوجها بمؤامرة خسيسة لا يقدم عليها إلى القتلة المتوحشون
كي يخلو له وجهها، ثم يتزوجها وينجب منها سليمان. وسليمان ينظم نشيداً
غزلياً شهوانياً يتفوق فيه على كل شعراء المجون يصف فيه سُرّة الحبيبة
وأثداءها وأفخاذها، كما يغض الطرف عن عبادة زوجاته للأوثان في بيته.
وعيسى تُكِبً امرأة على رجليه تبللهما بالدموع وتمسحهما بشعر رأسها
وتقبّل بفمها وتدهنهما بالطيب فيقول لها: "مغفورةً لك خطاياك"، وتأتيه
أمه وإخوته يريدون أن يقابلوه فيرفض قائلاً إن أمه وأخوته هم الذين
يسمعون كلمة الله ويعملون بها، مما لا يمكن أن يكون معناه إلا أنهم لم
يكونوا من الذين يسمعون كلمة الله ويعلمون بها. وفي مناسبة أخرى يأمر
اثنين من تلاميذه أن يدخلا إحدى القرى القريبة ويأتياه بجحش مربوط هناك
دون استئذان من أصحابه ليركبه. وفي العشاء الأخير يمسك بكأس خمر ويقدمها
لتلاميذه ليشربوا منها، بل إنه في أحد الأعراس التي دُعِيَ إليها قد حوّل
نحو خمسة عشر متراً مكعباً من الماء إلى خمر ليشرب المدعوّون
(1/9) ويسكروا،
وكان هذا استجابةً لطلب أمه. وقد عدّ كاتبُ إنجيل يوحنا هذا العمل أولى
معجزاته عليه السلام ... وهكذا، وهكذا مما هو مذكور في كتب القوم، وإن
كنا نحن المسلمين لا نصدّق بشيء منه. ترى ما دام كذلك فلم يكرهون محمداً
- صلى الله عليه وسلم -، وهو لم يفعل ذلك ولا عُشْره بل ولا واحداً على
مائة أو على ألف أو حتَّى على مليون منه؟ الواقع أن القوم، يسبب حقدهم،
قد سُلِبَتْ منهم عقولهم فهم لا يفقهون!
(1/10)
الفصل الأول
(الشبهات اللغوية)
(1/11)
الشبهات
اللغوية
(1/13)
ولْنُطبَّق الآن هذا الكلام على اللغة العربية: لقد كان الجاهليون
يمارسون العربية بالسليقة، وكان كلامهم هو مقياس الخطأ والصواب، وبطبيعة
الحال فإن شعراءهم وخطباءهم كانوا يمثًلون أرقى المستويات اللغوية لكونهم
أفضل قومهم ثقافة وذوقاًَ أدبياً ورهافة حسّ، وكان محمد واحداً من هؤلاء
المثقفين، مَثَلُه مَثَلُ امرئ القيس وطرفة وزهير والأعشى وقُسً بن ساعدة
وحسًان بن ثابت وغيرهم من الشعراء والخطباء الذين أُخِذَتْ عنهم اللغة،
ومن كلامهم قُعَّدَتْ قواعدها، فهل سمع أحد أن شخصاً قد خطأ أياً من
هؤلاء الشعراء أو الخطباء؟ إن هذا لم يحدث، ولن يحدث. فقرآن محمد إذن هو،
على أسوأ الفروض، مثل شعر امرئ القيس مثلاً أو خُطََب قس بن ساعدة، أي
أنه هو المعيار الذي يُحْتَكَمُ إليِه ويؤخذ منه ويُهْتَدَي به،
(1/14) إما أن
تطاول أحد وتطلع إلى تخطئته فتلك هي الطامة الكبرى، وهذا ما فعله هذا
الأحمق الموسوم بـ "العبد الفاضي"!
(1/15) اللغة
العربية، حسبما يبدو من أسلوبه نفسه أو من الاعتراضات التي يثيرها ضد
أسلوب القرآن، هي معرفة تافهة فجّة. وهذه جملة من أخطائه في الكتاب الذي
بين أيدينا:
(1/16) وتصحيحه:
"مُلغاة"، وقوله: "خانوا نظام المجتمع بإتيانهم نسائهم بعد صلاة العشاء"
(ص 201) ، وصحته "بإتيانهم نساءهم"، وقوله: "معروف أن لكل لغة أدباؤها"
(ص 203) ، وتصويبه8: "أدباءها"، وقوله عن الرسول الأكرم صلوات الله
وسلامه عليه: "كانت له عند وفاته تسع نسوة أحياء وسُرَّيَّتَيْن" (ص 207)
، والصحيح: "وسُرَّيَتان"، وقوله عن الرَّبَاعِيةَ إنها "الأسنان الأربعة
الأمامية" (ص 24) ، والصواب أنها الواحدة من هذه الأسنان الأربع لا كلها،
وقوله: "كانوا اثني عشر ألفا: العَشْر الذين حضروا فتح مكة، وألفان
انضموا إليه من الطلقاء: هوازن وثقيفا"، وفيه غلطتان قبيحتان: "العَشْر"
وصوابها: "العشرة" (أي عشرة الآلاف الذين حضروا فتح مكة"، ثم "وثقيفاً"،
وصوابها: "وثقيف" (فهي معطوفة على "هوازن"، التي هي بدل من "الطُّلَقاء"
المجرورة) ، وقوله: "فإذا أراد أن يزوج زينباً لابنه زيد ... ، وإذا أراد
محمد زينباً ... " (ص 247) ، وصحته "زينبَ" بفتحة واحدة لأنه ممنوع من
الصرف ... وهكذا.
(1/17) ثم يجب
وضع كسرة تحتها (ص 108) . وفات هذا الأرعن أن "ضراء" ممنوعة من الصرف
فتُجَرّ بفتحة واحدة كما هي في الآية، أما الجرّ بالكسر فلا تعرفه
العربية إلا بكسرتين اثنتين لا بكسرة واحدة. بل إنه، لفَرْط جهله، يخطئ
في نقل آية قرآنية دون أن يحسّ بأنه قد أتى شيئاً، ومرجع ذلك إلى بلاده
إحساسه. جاء في كلامه عن نوح عليه السلام أن القرآن يقول "وَجَعَلْنَا
ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِون" (الصافات/ 77) ، وهي بنصب {الْبَاقِينَ}
لا برفعها كما كتبها الأحمق.
(1/18) 1- يقول
(ص 107) إن "الصابئون" في قوله تعالى في الآية 69 من سورة "المائدة"
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ
وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ
صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} كان يجب أن
تُنْصَب لأنها معطوفة على {الَّذِينَ آمَنُوا} الواقعة اسماً لـ "إنّ".
وقد كان كلامه يكون صحيحاً لو أنها معطوفة فعلاً على {الَّذِينَ آمَنُوا}
ولم يكن إعراب آخر يهدف إلى نكتة بلاغية لا تتوفر في الإعراب الذي
وَهِمَه. وهذا الإعراب الآخر قد أومأت إليه إيماءً بالطريقة التي
استعملتُ بها علامات الترقيم في الآية، حيث وضعتُ عبارة "والذين
هادوا.... وعمل صالحاً" بين فاصلتين بما يدل على أنها عبارة اعتراضية،
ويكون تقدير الكلام هكذا: "ن الذين آمنوا لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف
عليهم ولا هم يحزنون، وكذلك الذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن منهم
بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً". أي أن {الَّذِينَ هَادُوا} مبتدأ خبره
كلمة "كذلك"، فهو إذن مرفوع وكذلك المعطوفان عليه: {الصَّابِئُونَ
وَالنَّصَارَى} . وقد حُذفت كلمة "كذلك"، وانتقلت جملة المبتدأ والخبر
لتحتل المكان الذي يفصل بين اسم "إنّ" وخبرها. أما النكتة البلاغية في
الآية فهي الإشارة إلى
(1/19) أن اليهود
والصابئين والنصارى هم أيضاً ممن يستطيعون النجاة يوم القيامة إذا دخلوا
فيما دخل فيه المسلمون من الإيمان بالله واليوم الآخر وعملوا الصالحات،
بمعنى أن الجنة في الإسلام ليست مقصورة على العرب وحدهم بل هي مفتحة
الأبواب حتى لليهود والصابئين والنصارى وأمثالهم. أي أن الإسلام ليس
كاليهودية مثلاً المقصورة على بني إسرائيل فلا يمكن أن يشاركهم غيرهم في
الهداية والنجاة لأن ربّ الكون إلهَّ خاصّ بهم، والنجاة نجاتهم وحدهم ...
وهكذا، فهذا ما أراده القرآن بصياغة الآية على ذلك النحو الموجز البليغ
الذي لا يستطيع الجهلاء أن يدركوا مراميه لأن القرآن لم ينزل على أمة من
الجهلاء المتحذلقين من أمثال هذا الأحمق بل نزل بالأسلوب الذي يفهمه
العرب، ومن ثم لم يجدوا في هذا الإعراب ما يمكن أن يؤخذ عليه، وإلا
لملأوا الدنيا صراخاً واعتراضاً، وهم الذين اتهموا الرسول، كما ذكرنا،
بكل نقيصة مما هو بعيد عنه بعد السماء عن الأرض، إلا أنهم لم يحوَّموا
حول اتهام لغته بالخطأ، وهناك من يوجّهون "الصابئون" على أنها منصوبة رغم
ذلك، ولكن على لغة قبيلة بلحارث بن كعب، الذين يعربون جمع
(1/20) المذكر
السالم بالواو في كل الأحوال رفعاً ونصباً وجراً مثلما يعربون المثنى
بالألف دائماً في هذه الحالات الثلاث جميعاً، كما أن هناك توجيهات أخرى
لا نقف عندها.
(1/21) وكذلك هذا
البيت:
(1/22)
تُحِبُّونَ} ، ومن الأولى قوله: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا
دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} . وقد يصح أن نذكر
هنا أيضاً قوله تعالى على لسان زكريا في حديثه عن تقدمه في السن في الآية
40 من "آل عمران" والآية 8 من "مريم" على الترتيب: {وَقَدْ بَلَغَنِيَ
الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} ، {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ
عِتِيًّا} حيث أتى الضمير العائد على زكريا عليه السلام في الأولى
مفعولاً به و"الكبر" فاعلاً، وفي الثانية فاعلاً، و"الكِبَر" متعلقاً
بالمفعول به. وفي كل من التركيبين نكتة خاصة، إذ توحي الأولى بأنه قد قطع
الشوط الأكبر من مسيرة الحياة، على حين تومئ الثانية بأن الكبر يطارده
ويسعى إلى اللحاق به، بينما يحاول هو فَوْتَه، لكن الكبر يدركه في نهاية
المطاف.
(1/23) "لا
يَصْدُق عهدي على الظالمين من ذريتك". وهذا هو الوجه الذي أختاره، وإن
كنت لا أقلّل من شأن ما قاله علماؤنا رحمهم الله.
(1/24) الفعل
"نال": "It reached
him, came to him"، بمعنى "وصل إليه"، أي أن هذا الفعل يقع كذلك من الشيء على الشخص كما تفيد
العبارة الإنجليزية بكل جلاء. وأحسب بعد ذلك كله أنه ينبغي على الجهلة أن
يخرسوا ولا يفتحوا فمهم بكلمة!
(1/25) الكتب
الموسَّعة نضرب عنها صفحاً لأننا لا نبغي التكثَّر، بل كل همنا أن نوضح
لخالي الذهن ممن قد يقع فريسة لهذه التشويشات الطفولية أن الأمر أعمق مما
يَبْغَم به هذا الصغير. ومن ذلك أيضاً الآية 17 من "الشورى": {وَمَا
يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} ، الآية 83 كم "هود": {وَمَا هِيَ
مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} ، والآية 31 من "ق": {وَأُزْلِفَتِ
الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} ، والآية 78 من "يس": {قَالَ
مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} ، والآية 29 من "الذاريات":
{عَجُوزٌ عَقِيمٌ} ، والآية 41 من نفس السورة: {أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ
الرِّيحَ الْعَقِيمَ} ، والآية 8 من "الإسراء": {وَجَعَلْنَا
(1/26) جَهَنَّمَ
لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} . أترى القرآن قد أخطأ في ذلك كله وسكت عنه
المشركون فلم يستغلوا هذه الأخطاء التي كان من شأنها أن تضربه في الصميم،
إلى أن جاء هذا الصغير الهجّام فاكتشفها؟
(1/27) دهين"
(والدهين: القليلة اللبن) ... إلخ.
(1/28) لوجوب هذا
التركيب، بل التركيبان كلاهما جائزان، لكن الجاهل يحسب أنه لا يصح إلا ما
يعرفه فقط رغم أن ما يعرفه لا يعدو أن يكون فُتاتةً من الفتات. وتوجيه
الكلام في الآية هو على النحو التالي: "وقطعناهم اثنتي عشرة (قطعة،
وجعلنا هذه القطع) أسبتطاً أمما". فـ "أسباطاً أمما" بدل من "اثنتي عشرة"
وليست تمييزاً لها. ويتضح ما نقول إذا عكسنا التركيب فقلنا: "وقطعناهم
أسباطاً أمما اثنتي عشرة". ومثلها في القرآن الكريم أيضاً في الآية 25 من
"الكهف": {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ
وَازْدَادُوا تِسْعًا} بدلاً من "ثلَثمائةِ سنةٍ" في التركيب المعتاد،
وكلاهما صحيح. والمعنى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ} .
(1/29) والجرّ لا
بصيغة جمع المذكر السالم المرفوع. ومذل الآية القرآنية بالضبط ما جاء قبل
ذلك في الفقرة الثالثة من نفس الفصل من أن يربعام قد صافَّ أَبِيَّا
"بثمانمائةِ ألفٍ منتخَبين من جبابرة البأس" وما جاء في الفقرة 17 من
الفصل الحادي عشر من السفر نفسه من إنه كان مع ألياداع "مائتا ألفٍ
مسلّحون بالقسىّ والتروس"، ومع يوزاباد "مائة وثمانون ألفا متجردون
للحرب" ... إلخ.
(1/30)
الْمِحْرَابَ} (ص/ 21) ، {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ
يُضِلُّونَكُمْ} (آل عمران/ 69) ، {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ
بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ
وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ
غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} (آل عمران/ 154) ، {فَلْتَقُمْ
طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا
سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى
لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} (النساء/ 102) ، {فَلَوْلَا نَفَرَ
مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ}
(التوبة/ 122) ، {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} (المائدة/
56) ، {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم/ 32) ، {أَلَا
إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (المجادلة/ 22) ، {إِنَّمَا
يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (فاطر/ 6) ،
{وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ
يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (البقرة/
75) ، {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ
اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (البقرة/ 101)
، {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ
بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} (الأحزاب/ 13) ، {إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ
كَافِرِينَ} (آل عمران/ 100) .
(1/31) "الفريق:
في القرآن. فإنه يستعمل لها ضمير جمع الذكور إذا كانت العلاقة بين
الخصمين أو الطائفتين أو الفريقين علاقة خلاف مثل: {هَذَانِ خَصْمَانِ
اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} (الحج/ 19) ، "إذا دخلوا على داود ففزع منهم
قالوا: لا تخف، خصمان بَغَى بعضنا على بعض" (ص/ 22) ، {وَإِنْ
طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}
(الحجرات/ 9) ، {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} (النمل/ 45) .
ويبدو لي أن الحكمة من وراء ذلك هي الإيماء ما تستتبعه الخصومة من اشتباك
وتداخل بحيث يموج بعضهم في بعض ولا يعودان منفصلَيْن أو متمايزين. وهذا
كله مما لا يقدر أمثال هذا الجاهل أن يدركوه من تلقاء أنفسهم. ولعله بعد
يد المساعدة التي مُدَّت له يكون قد استوعب الدرس، وإن كنت أشك كثراً في
ذلك لما يبدو من بلادة ذهنه سواد قلبه تجاه وسيًده رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -.
(1/32) سورة
"التوبة": {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} (ص 107) ، أي أن المشبه به، في
نطره الكليل، هو جماعة أخرى من الخائضين. وقبل أن أفنَّد هذا التنطع
الغشوم أحكي القصة التالية: فقد حضرت، وأنا في أكسفورد في أواخر
السبعينات، محاضرة لشاب متحذلق من المستشرقين كان هجاماً طويل اللسان مع
طلابه، فسمعته يقول أثناء المحاضرة إن في القرآن شذوذات لغوية، فانتظرتُ
حتى انتهى الدرس وخرج فخرجت معه أساله أن يضرب لي أمثلة على هذا الذي
يدّعيه، فأشار إلى هذه الآية قائلاً: تجد الإشارة إليها في تفسير الطبري،
ولم أكذّب خبراً ونزلت في الحال إلى مكتبة المعهد وقلّبت تفسير الطبري
فلم أجده ذكّر شيئاً من ذلك، فقلت: أنظر في تفسير النيسابوري الذي على
هامشه، فوجدته، بعد أن شرح الآية على أساس أن معناها: "وخضتم (أيها
المنافقون) كالخوض الذي خاضه أمثالكم في الأزمنة السابقة"، قد أضاف هذه
العبارة: "وقيل: أصله "كالذين" فحذف النون". فاستغربتُ من تدليس المستشرق
الصغير الذي أكد لي بقوة أن الطبري هو قائل ذلك، بل لقد أَوْهَم كلامه أن
هذا هو التفسير الوحيد الذي قال به ذلك العلاّمة الجليل. وكل ذلك غير
صحيح كما قلت، بل قائله هو النيسابوري، الذي أرجأه إلى ما بعد الفراغ من
التفسير الذي ذكرتُه، وأورده بصيغة التمريض:
(1/33) "قِيلَ"،
التي تدل على أنه غير مقتنع به. والشاهد في هذه القصة أن صويحبنا إنما
يردد ما يلقنونه إياه دون فهم كالببغاء!
(1/34) على الفور
وأصبحت قلقه. ثم ما معنى "وخضتم كالذين خاضوا"؟ وإذا كان المقصود هم
الذين قبلهم، فلماذا لم تستعمل الآية الكريمة الضمير بدلاً من الاسم
الموصول فتقول: "وخضتم مثلهم" بغض النظر عن غموض المعنى؟ ولنفترض أننا
ضربنا صفحاً عن ذلك كله وقلنا إن المقصود فعلاً هو "وخضتم كالذين خاضوا"،
فهل يكون ذلك خطأ لغوياً؟ كلاً. ذلك أن المفسّر الذي شرحها هذا الشرح قد
أقام كلامه على أساس أن من العرب القدماء من كان يستعمل "الذي بمعنى
"الذين". ليست المسألة إذن مسألة خطأ بل مسألة فصاحة وعدمها، وهذا هو
الذي دفعني إلى سوق الأسباب المنطقية والبلاغية التي تجعلني أرفض ذلك
التفسير، وهذا كل ما هنالك.
(1/35)
7- ونبلغ
الاعتراض السابع، وفيه يقول عبدنا الفاضي (الذي يمتلئ كتابه الحقير
بالأخطاء النحوية
الأولية ثم يأنس في نفسه الوقاحِ الجرأةَ على التهجم على لغة القرآن
الكريم رعونةً منه وطيشاً) إن في قوله تعالى في الآية 10 من سورة
"المنافقون": {وانفقوا وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ
أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا
أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ
الصَّالِحِينَ} خطأ نحوياً، إذ كان المفروض (حسبما يقول) أن يُنْصَب فعل
الكينونة عطفاً على "أصَّدَق" (ص 108) . وأنا على يقين أنه لا يعرف لم
نُصِب هذا الفعل الأخير. إنما هو كلام وُضِع على لسانه فردَده كالببغاء
دون أن يعي معنّى أو يدرك مغزى. أجل، أنا موقن تمام الإيقان أنه لا يفهم
أن سبب نصب هذا الفعل هو مجيئه بعد "فاء السببية"، لكن فلْنَطْوِ هذه
ولنسارع إلى القول بأنه مدام القرآن قد استعمل لفظاً أو تركيباً أو
إعراباً ما فهو صواب لا يأتيه الغلط من بين يديه ولا من خلفه حتى لو قلنا
إن الرسول عليه السلام هو مؤلفه، فهو عربي تؤخذ عنه اللغة ولا يراجّع في
شيء منها، فضلاً عن أن أحداً من المشركين أو المنافقين أو نصارى العرب
ويهودهم لم يعترض على شيء من لغة القرآن رغم حرصهم على التشكيك فيه بكل
وسيلة.
(1/36) دقيقاً،
وهو أن قائل هذا الكلام، رغم تمنّيه تأجيل موته قليلاً، يعلم أن
الاستجابة لأمنيته أمر مستبعد، كيف ذلك؟ المعروف أن "إنْ" الشرطية تدل
على استبعاد وقوع الشرط أو استحالته، ومعنى الكلام على أساس جزم "أكُنْ"
هو: "لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصَّدَّق، وإن حدث هذا أكن من الصالحين".
أي أنه يعرف أن تأخير موته إلى أجل قريب هو من الاستحالة بمكان. ألم يقل
القرآن: {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا
يَسْتَقْدِمُونَ} ؟ ألم يكن جواب الله على من سأله الخروج من النار
والرجوع إلى الدنيا لعله يعمل صالحاً ينجيه مما هو فيه من عذاب النار:
{كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ
إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} ؟ ألم يعقّب القرآن على من نطقوا بكلمة
الإيمان في سَقَر قائلاً: "أنَّى لهم التناوش (أي كيف يمكنهم أن يفوزوا
بالإيمان) من مكان بعيد (أي بعد أن انقضت الدنيا ولم يعد من سبيل إلى
تدارك ما فات) ؟ "؟ وعلى عادة القرآن الكريم نراه قد أدّى هذا المعنى
بغاية الإيجاز، إذ لم يفعل أكثر من تسكين نون "أكون" بدلاً من فتحها.
وهذه هي
(1/37) الفحولة
القرآنية المعروفة، أما الصغار التافهون فأنَّي لهم أن يفهموا ذاك؟
(1/38) في
المعاطب! وبالمناسبة فثَمً قراءة أخرى بنصب "أكون"، وكلتا القراءتين
عربية بليغة، وكل ما في الأمر أن لكل منهما مغزى غير الذي للأخرى.
(1/39) هو الرسول
عليه السلام، فقد أتى بنور القرآن هدايةً للبشر، لكن المنافقين غطَّوْا
أعينهم وأغلقوا قلوبهم في وجه دعوته وهدايته، وهو ما عبًر عنه القرآن بأن
الله قد ذهب عندئذ بنورهم، أي بمقدرتهم على الرؤية والاستجابة لداعي
الخير.
(1/40) ينفقون
أموالهم في سبيل الله (مع ما ينفقونه) كمثل (الزارع مع ما يبذره من) حبة
أنبتت سبع سنابل ... ". وهذا من أساليب القرآن الموجزة المحكمة التي
تعتمد على يقظة السامع أو القارئ واكتفائه بالقليل عن تطويل الكلام حيث
لا تكون هناك نكتة بلاغية في تطويله.
(1/41) الصلاة
وهم كسالى مراءاةً للناي أو لمجرد التخلص من عبثها. والمعنى على ذلك هو:
"الراسخون في العلم منهم والمؤمنون ... ، وخاصةً المقيمين الصلاة،
والمؤتون الزكاة ... " أو ما أشبه. وهذا من وظائف الإعراب في الأسلوب
العربي الأصيل، إذ بإبدال حركة بحركة أو حرف بحرف يستغنى المتكلم عن
لفظةٍ أو جملة بأكملها. ومن ذلك قول خرنق بنت هفّاف:
(1/42)
"والمقيمون الصلاة" (ص 108) . ترى ماذا هو قائل إذا ذكرنا له أن كلمة
"الكريم" في قولنا مثلاً: "ذهبتُ مع محمدٍ الكريم" يجوز فيها، إلى جانب
الخفض، الرفعُ على تقدير "ذهبت مع محمدٍ، الذي هو الكريم"، وكذلك النصب
على تقدير "ذهبت مع محمدٍ، أعني الكريمَ لا غيره"، أو إذا قلنا له إن
كلمة "خَرِب" في العبارة المشهورة: "هذا جُحْر ضَبَّ خَرِب" يحوز رفعها
نعتاً لـ "حُجْر"، وهو الأصل، كما يجوز خفضها لمجاورتها كلمة "ضَبّ"
المجرورة، أو إذا قلنا له إنه يجوز في الجملة التالية: "ولم يكن لهم من
رأس مال غير جِدّهم واعتمادهم على أنفسهم" رفع كلمة "غير" ونصبها وجرّها؟
صحيح أننا الآن نميل إلى إجراء إعراب واحد في كثير من هذه الحالات، لكن
الأسلوب القديم الأصيل يتمتع بمرونة تفتقدها أساليبنا الحديثة التي
تُراعَى فيها القواعد العامة عادة. أياً ما يكن الأمر فلا ينبغي للجهلة
أن يستطيلوا بجهلهم على القرآن الكريم.
(1/43) لا يُلِمّ
حتى بالقواعد الأولية التي يعرفها تلميذ المرحلة الابتدائية.
(1/44) يتكلم عن
أي التعبيرين أصلح لها من الآخر؟ ثم هناك سؤال ثانٍ: ترى من قال له إن
أحد التعبيرين يدل على القلّة، والآخر على الكثرة؟ إن الدلالة على القلة
ناشئة من أن الأيام التي سيقضونها في النار أيام يمكن عدّها بسهولة،
فصيغة المفعول من "عَدَّ" هي في ذاتها الدالّة على القلة بغض النظر عن
إفرادها أو جمعها. ولقد وردتْ هذه العبارة ذاتها، وعلى لسان اليهود
أيضاً، في موضع آخر من القرآن، مع استبدال كلمة "معدودات" بـ "معدودة"
بما يدل على صحة ما قلت. كما أن معظم المفسرين الذين رجعتُ إليهم قد
ذكروا أن كلتا الصيغتين فصيحة دون أن يشيروا إلى وجود أي فرق بينهما.
مفسر واحد منهم فقط ذكر أن وصف الجمع غير العاقل بصيغة المفرد المؤنث يدل
على الكثرة، بعكس صيغة جمع الألف والتاء، في مقابل مفسّر آخر ذكر العكس.
(1/45) لم يمنع
هذا أن يحدث العكس، والأمثلة على هذا وذاك معروفة. أما كون أيام اليهود
في النار "معدودة" أو "معدودات" فدلالة القلة فيها ناشئة من أن تلك
الأيام يسهل عدّها لا من صيغة الإفراد أو الجمع. ولا معنى إذن لهذا الذي
صدّع به الجهول أدمغتنا.
(1/46) قصرت، لا
يمكن أن تكون أياماً قليلة إلى هذا الحدّ، أما في القول التالي المنسوب
لأيوب فإنه يصف سنوات حياته بأنها "معدودة"، وسنوات حياة الشخص أقل في
العدد من أيامها بكل يقين، وبخاصة أن أيوب قالها وهو مريض، أي بعد أن قطع
شوطاً طويلاً من عمره. قال: "فإن سنواتي المعدودة تنقضي فأركب طريقاً لا
أعود منه".
(1/47) أيام شهر
رمضان من كل عام. وهو نفس المعنى في قوله تعالى: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ
إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ} ، وقوله: "ولئن أخَّرنْا عنهم العذاب إلى
أُمَّة معدودة (أي إلى وقت محدّد) ليقولُنّ: ما يحبسه؟ ". و"الأجل"
و"الأمة" معناها "الميقات"، والميقات لا يُعَدّ، وإنما يحدَّد.
(1/48) وقد يغدو
للعَلَم أكثر من نطق في اللغة التي انتقل إليها كما هو الحال عندنا
بالنسبة لـ "أرسطو" و"أرسطوطاليس" و"رسطاليس"، و"أهْلَوارْد"
و"اَلْوَارْد" و"ألْفَرْث" (وهو اسم مستشرق ألماني معروف) ، و"جبرائيل"
و"جبرئيل" و"جبريل" و"غبريال". ومعروف أيضاً أن لاسم النبي محمد عليه
الصلاة والسلام في اللغة الإنجليزية مثلاً كذا صيغة مثل "Mahomet"
و"Mahound"
و"Muhammed"
و"Muhammad".
وفي ضوء هذا فإن من السهل الإشارة إلى أن العرب ينطقون اسم شبة الجزيرة
التي تقع في شمال شرق مصر بعدة صور: "سِينا" و"سِيناء" و"سَيْناء"
و"سَيْنِين" و"سِينين". والشيء ذاته يقال في اسم النبي الكريم الذي نحن
بصدده. إذ يقولون: "إلياس" و"إبليس" و"إلياسين". وقد اختار
(1/49) القرآن
الكريم في كل من الموضعين اللذين نحن بصددهما الصيغة التي تناسب السياق
محافظةً منه على الإيقاع الموسيقي، أما في غير ذلك فقد استخدم الصيغة
الأشيع، وهي "سَيْناء" و"إلياس"، فليس في الأمر جمع ولا تكلف سجع ولا
يحزنون.
(1/50) السنين،
أو أنه كان للشخص الواحد عدة أسماء، أو أن الأمر مجرد ألفاظ مترادفة.
فهذه هي المصيبة حقاً، أما الوقوف عن "إلياس" و"إلياسين" فهم تنطعَّ
فارغ. وفي النهاية المطاف ألفت نظره، إن كان عنده نظر، إلى التناقض
الرهيب في اسم عيسى عليه السلام بين سفر "نبوءة أشَعْيا" وبين إنجيلَيْْ
متَّى ولوقا، إذ جاء في "أشَعْيا" (7 /14، و9 /6 - 7) أن العذراء ستلد
لله ابناً وتسميه "عمّانوئيل"، بينما في "متًّى" (1/21) أنها ستلد ابناً
وتدعو اسمه يسوع، وهو نفسه ما جاء على لسان جبريل عليه السلام حسب رواية
"لوقا" (1/3) ، وإن انتكس الكلام عنده عقيب ذلك إذ يعود فيقول: "هذا كله
لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل: هو ذا العذراء تحمل وتلد ابناً
ويدعون اسمه عمًانوئيل، الذي تفسيره: الله معنا". وبطبيعة الحال لم
يُسَمً المسيح عليه السلام يوماً "عمًانوئيل".
(1/51) النحو
التالي: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ
عَلَى حُبِّهِ ... } ، مؤكداً أنه كان يجب أن يقال: "ولكن البِرً هو
الإيمان بالله واليوم الآخر ... " لأن البِرً هو الإيمان لا المؤمن كما
قال (ص 109) . وهذه أيضاً من الأمارات على جهله الشنيع بلغة الضاد، فمن
الواضح أنه لا يعرف شيئاً اسمه استخدام المصدر صفةً مثل: "رَجُلٌُ
عَدْلٌ، وامرأٌة صِدْقٌ" بما يوحي إنهما قد بلغا الغاية في العدل والصدق
بعد أن أضحيا هما العدل والصدق ذاته. ومن شواهد هذا الاستعمال في الشعر
العربي قول الشاعر القديم: "فإنما هي إقبالٌ وإدبار". ومثله في الكتاب
المقدس عند المتنطع وأشباهه: "وكانت الأرض كلها لغةً واحدة وكلاماً
واحداً"، وكان ينبغي، بناءً على فهم هذا المأفون، أن يقال: "وكان سكان
الأرض كلهم يستعملون لغة واحدة وكلاماً واحداً". ومثله أيضاً: "كانتا (أي
زوجتا عيسو بن إسحاق) مرارة نفس لإسحاق ورفقة". ومثله: "هو (أي الربّ)
فَخْرُك"، والمفروض، حسب كلام الغبيّ، أن يقال: "هو سبب
(1/52) فخرك".
ومثله قول يواب لأبشاي أخيه: "إنْ قَوِىَ عليَّ الأراميون تكون أنت
نجدة". ومثله: "صُنًاع التماثيل كلهم باطل"، وكان يجب، طبقاً لتنطع
صُوَيَحْبِنا، أن يقال: "صُنَّاع التماثيل كلهم مبطلون". ومثله: "وتخلقون
اسمكم لعنة لمختارِىَّ"، حيث استُخْدِمت "اللعنة" وصفاً رغم أنها مصدر
مثل "البرّ". ومثله: "فيكونون سُبّةً ودهشةً ولعنةً وعاراً". ومثله:
"سُبُلُه (أي سبل الله) عَدْل". وبعد فأرجو أن يكون ذلك الأحمق قد تعلم
الدرس، وإن كنتُ أرتاب في هذا.
(1/53) أن يكون
صاحب القرآن من الضعف في اللغة بحيث يتكرر منه هذا الخطأ في تلك المسافة
القصيرة أو أن يكون العرب من كافرين ومسلمين من الجهل بحيث لا يتنبهون
لذلك الخطأ أو يكون المشركون والمنافقون واليهود والنصارى من المجاملة
لمحمد بحيث يصمتون أمام هذا الغلط ولا يُحْرِجونه ويشنّعون به في الآفاق.
(1/54) هلاكه!
وإذا كان الشيء بالشيء يُذْكَر فنحبّ أن نذكّر هنا بأسماء الأعلام التي
هي في الأصل مصادر، مثل: "وفاء، ونجاح، ورضا، وإنعام، وإيمان، وجهاد،
وسلامة، وعِزٌ، وإقبال، وبركة، وهمْس، وهديل ... إلخ".
(1/55) 16- وفي
قوله تعالى في الآية 59 من سورة "آل عمران": {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ
اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ
فَيَكُونُ} يعترض عبد الفاضي مؤكداً إنه "كان يجب أن يُعْتَبر المقام
الذي يقتضي صيغة الماضي لا المضارع فيقول: قال له: كن، فكان" (ص 110) .
وواضح إنه، لجهله وحرمانه من المقدرة على تذوق الأساليب الأدبية الرائعة
وما تتميز به من مفاجأة القارئ أو السامع في كثير من الأحيان بما يهزّه
ويوقظه ويخرجه من النزعة الآلية التي تستولي علينا من كثرة ما نرى الأمور
تجري على وتيرتها المعهودة، يظن إنه لا يوجد إلا طريقة واحدة في التعبير
عن كل معنى. وهذه طفولية لغوية وأدبية، وإلا فكيف فاته أن عبارة "كن،
فيكون"، وإن استُعْمِلت هنا في الكلام غن خلق آدم في الماضي، فإنها تمثل
مبدأ عاماً لا يتقيد بزمن، فأُبْقِيَتْ من ثَمّ على حالها التي وردت بها
في المواضع الأخرى من القرآن الكريم، وكلها تقريباً مما لا يتقيد بزمن.
فهذه نكتة بلاغية رهيفة لا يقدر على التقاطها بُلَداء الذهن والذوق. ثم
هناك نكتة بلاغية أخرى مثلها رهافةً بحيث لا يستطيع سَمِيك العقل
والوجدان أن يتنبه إليها، ألا وهي أن
(1/56) الحديث في
الآية، وإن كان عن آدم أبي البشر، فإنه يصدق كذلك على أبنءا آدم في
المستقبل، فلاستخدام القرآن لهذا السببِ صيغة المضارعة التي تدل على
الاستمرار والديمومة. ترى أفهم الجهول أم نعيد الكلام من جديد؟ وهناك
نصيحةٌ تقول: لا تلْقُوا بالدرر أمام الخنازير! وما إلى الخنازير
قَصَدْنا بكتابة ردنا هذا، ولكننا وضعناه لطَيًبي النية ممن توسوس
الثعالب في آذانهم، وذلك كي يأخذوا حذرهم فلا ينخدعوا بملاسة الجلد عن
نار الحقد المستعرة في قلوب هذه الثعالب الفتاكة. ومن أمثلة عطف المضارع
على الماضي في الشعر الجاهلي قول تأبط شراً يصف عراكه مع الغول:
(1/57) الكتاب
المقدس عند الضالّ التعيس: جاء في سفر "نبوءة أَشَعْيَا" (6/9 - 10) عن
رب العزة: "قال: انطِلقْ وقل لهذا الشعب (أي بني إسرائيل) : اسمعوا
سماعاً ولا تفهموا، وانظروا نظراً ولا تعرفوا. غلًظْ قلب هذا الشعب
وثَقًلْ أذنيه وأغمضْ عينيه لئلا يبصر بعينيه ويسمع بأذنيه ويفهم بقلبه
فيرجع فيُشْفَى". ويرى شراح الكتاب المقدس أن في الكلام هنا مجازاً حيث
تكرر استخدام صيغة الأمر في الكلام على حين أن المقصود هو المضارع الدال
على المستقبل، بمعنى أن بني إسرائيل سيسمعون ولكن لن يفهموا، وسينظرون
ولكن لن يَرَوْا. وقد حوّل يوحنا في إنجيله (12/ 39 - 40) الزمن في هذه
الأفعال إلى الماضي وجعل الفاعل هو الله تعالى: "لأن أشيعاً قال أيضاً:
أعمى (أي الله) عيونَهم وقسَّي قلوبَهم لئلا يبصروا بعيونهم ولا يفهموا
بقلوبهم". ومثل ذلك ما جاء في مفتتح الفصل الثاني عشر من سفر "الأحبار":
"أية امرأة حبَلَتْ فولدت ذكراً فلْتكُنْ نجسة سبعة أيام ... فإن ولدت
أنثى فلتكن نجسة أسبوعين"، حيث استُخْدِمت "لام الأمر" مع المضارع بدلاً
من استخدام المضارع المجرد من اللام رغم أن الكلام هنا خبر لا طلب.
(1/58)
17- وفي قوله
تعالى في الآية 15 من "يوسف" عن إخوته عليه السلام وعزمهم على التخلص منه
حتى يخلو لهم وجه أبيهم: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ
الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا
وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} يؤكد الأخرق أن في الجملة خطأ لأنها تخلو من
جواب "لولا"، وإنه "لو حُذفت الواو التي قبل "أوحينا" لاستقام المعنى" (ص
110) . ولابد من التنبيه أولاً إلى أن القرآن يَكْثُر فيه الحذف، فهم سمة
من سمات لغته أفاض فيها علماء القرآن والنحو والبلاغة، وهذا الحذف موجود
أيضاً بكثرة في الشعر العربي القديم أيام كان العرب يستعملون لغتهم
بتلقائية الواثق القابض على عنانها يصرَفها حسبما تَشاء مراميه البلاغية.
فهذه الآية إذن ليست بِدْعاً في القرآن، وهذا إن قلنا بالحذف، وهو مجرد
رأي من الآراء التي وُجًهَتْ بها الآية. والحذف هنا، عند من يقول به،
غَرَضُه التشويق وإثارة تطلع القارئ للتفكير في المراد من الآية. ومازلنا
حتى الآن نقول في أحادثنا مثلاً: "آه لمّا جاء أبوه ورأى ما صنع! "، فهل
سمع أحدنا قطّ من يعترض على مثل هذا الأسلوب ويتهمه بالنقص؟ ومن شواهد
هذا الاستعمال في الشعر العربي القديم قول امرئ القيس عن إحدى مغامراته
العاطفية مع حبيبته:
(1/59) حيث انتهت
جملة "لَمَّا" مع نهاية البيت دون أن يظهر لها جواب. وبهذا الحذف يريد
امرؤ القيس إثارة خيال السامع لينطلق فيتصور على هواه كل ما يمكن أن يكون
قد وقع بينه وبين حبيبته.
(1/60) الذين
يأكلون شعبي أكْلَ الخبز ولم يَدْعوا الرب؟ هناك جزعوا جزعاًَ حيث ليس
جزع لأن الله في جيل الصدّيقين". وعبثاً نحاول أ، نحد في النص مفعول "ألم
يعلم....؟ ". وقد تركه المتحدث عمداً ليثير خيال السامعين ويهوّل لهم ما
يريد تحذيرهم منه. والمراد مثلاً: "ألم يعلموا ما ينتظرهم من جزع ورعب
وعقاب لا يُرَدً؟ ".
(1/61) وها نحن
أولاء نورد أولاً الآية المذكورة والتي قبلها ليتابعنا القارئ فيما نقول.
قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8)
لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ
وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} . وشبهة الأحمق تقول إن هناك
"اضطراباً في المعنى بسبب الالتفات من خطاب محمد إلى خطاب غيره، ولأن
الضمير في {تُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} عائد على الرسول المذكور آخراً،
وفي قوله: {تُسَبِّحُوهُ} عائد على اسم الجلالة المذكور أولاً. هذا ما
يقتضيه المعنى، وليس في اللفظ ما يعيّنه تعييناً يزيل اللَّبْس. فإن كان
القول: {تُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً
وَأَصِيلًا} عائداً على الرسول يكون كفراً لأن التسبيح لله فقط. وإن كان
القول: {تُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً
وَأَصِيلًا} عائداً على الله يكون كفراً لأنه تعالى لا يحتاج لمن يعزَّره
ويقوَّيه" (ص 110) . ورداً على هذا السخف الذي لٌفَّته هذا الببغاء
تلقينا فأداه كما قيل له دون أن يفقه منه شيئاً نقول: أما الالتفات من
"كاف الخطاب" لـ "واو" المخاطبين فلست أدري ماذا فيه. إن رب العزة
المتعال يخاطب رسوله قائلاً: "إنا أرسلناك (يا رسول الله) شاهداً ومبشراً
ونذيراً لتؤمنوا (أنت وسائر العباد) بالله ورسوله ... إلخ"، فماذا في هذا
الكلام مما يصعب فهمه؟ بٌؤْسَ للعقول السَّنِخة والأفواه المنتنة!
(1/62) وأما
المشكلة التي يريد أن يخلقها خلقاً في قوله عز من قائل: {لِتُؤْمِنُوا
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ
بُكْرَةً وَأَصِيلًا} فلا وجود لها إلا في ذهنه المخبول. بالله لم لا
يكون التعزير والتوقير والتسبيح جميعاً لله - عز وجل -؟ ما الذي في ذلك
مما لا يناسبه سبحانه ويُوقع القائل به في الكفر؟ إن الله حلَّت قدرته
ليس في حاجة فعلاً إلى أية مساعدة أو عون من أحد، بَيْدَ أن الكلام في
الآية إنما هو على المجاز مثل قوله في الآية السابعة من سورة "محمد":
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ
وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} وقوله في الآية 17 من "التغابن": {إِنْ
تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ} وغير ذلك. ومغزى
المجاز في الآية التي بين أيدينا هو زيادة الحضّ على الاستمساك بعروة
الإسلام ونصرة مبادئه والجهاد دفاعاً عنه والتضحية في سبيله بالنفس
والنفيس، وهو أسلوب من الكلام يراد به استفزاز أقصى طاقات المخاطب
واستنفار كل ما تجيش به نفسه من عزم، إذ متى ما قيل للمؤمن إنك، بعملك
كيت وكيت، إنما تنصر الله نفسه، فإنه يهبّ بجمع طاقته وعزيمته لتحقيق ما
تطلبه منه. كذلك فهذا الأسلوب يُشْعِر المؤمن بأنه شديد القرب من ربه،
ويجعل حبل المودة بينه وبين مولاه قوياً متيناً. ولقد أثمر هذا
(1/63) الأسلوب
ثمرته فرأينا المسلمين يسترخصون كل شيء في سبيل نصرة دينهم ورسوله، بخلاف
غيرهم ممن أسلموا نبيهم وفرّوا من حوله فأخذ يصرخ (كما جاء في كتبهم التي
لا نصدقها) مستنجداً بالسماء على غير جدوى! وفي هذا بلاغ، ولا داعي
للإفاضة! وأما بالنسبة للتوقير فنستشهد عليه بما جاء في الآية 13 من سورة
"نوح" خطاباً من هذا النبي الكريم لمشركي قومه: {مَا لَكُمْ لَا
تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} ؟. لا مشكلة إذن في الآية كما هو واضح، بل
المشكلة في الذهن المأفون!
(1/64) ولكن حتى
لو نُوَّنتا، وهناك قراءة تنونهما فعلاً، فليس في تنوينهما من بأس، إذ من
العرب قديماً من كان ينوَّن الأسماء كلها ما عدا "أفعل التفضيل". صحيح
أننا الآن لا ننوَّن أشياء كثيرة من بينها ما كان من الجمع على وزن
"مَفاعِل" و"مفاعيل"، لكن هذا لا يعدو أن يكون جانباً واحداً من المسألة،
أما الجانب الآخر فهو أن المنع من الصرف لم يكن لغة كل العرب بل غالبيتهم
فقط. ونحن نميل حالياً إلى التزام القواعد العامة وترك اللهجات القبلية
التي لا تجرى مع هذه القواعد. إلا أن هذا شيء، والمسارعة بجهل إلى تخطئة
أصحاب اللغة الأصلاء الذين منهم أخذنا قواعدنا وإياهم نحتذي فشيء آخر.
فليكن الجهلاء على بينَّه من هذا حتى لا يَضِلوا ويُضِلوا! والشواهد
الشعرية على صَرْف ما تعوّدنا على منعه من الصرف كثيرة في النصوص
القديمة، والأمر فيه ليس أمر ضرورة شعرية فقط كما قد يُظَنً، بل هو لغة
من لغات العرب كالمنع من الصرف سواء بسواء.
(1/65) مِنَ
الْمُحْسِنِينَ} بما يغنينا عن إعادة القول عنا رداً على الشبهة العشرين
التي تورد آية أخرى توجد فيها الظاهرة اللغوية نفسها هي الآية 17 من
"الشورى"، ونصها: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} .
(1/66) ضاحكاً:
وهل هناك "سلام" بغير اليد اليمنى حتى تحتاج الفتاة إلى تأكيد ذلك؟ ثم
عدتُ أنظر في العبارة من جديد فوجدتُ الحسن كله في هذا التحديد الذي قد
يبدو للعجلين إنه زيادة لا ضرورة لها، لأن هذه الكلمة قد حوَّلت "السلام"
من معنًى مجردٍ إلى واقعةٍ حية يبصرها الذهن ويرى فيها اليد مشتبكة باليد
تصافحها وتبثها الحنان. وكذلك الحال هنا، فقد تحولت العبارة بكلمة
"كاملة" كم مسألة حسابية مجردة إلى واقعة حية. ولا تنس أن العرب في
الجاهلية لم يكونوا من علوم الحساب في شيء، فكان لابد من التأكيد ليعرفوا
أن رقم العشرة هنا رقم كامل لا عدد تقريبي، وهذا كقول النابغة الذبياني
مثلاً:
(1/67) لمدينة
مثلاً: "أريد منك ألف الجنية التي اقترضتها مني كاملةً لا تنقص مليماً
واحداً" أو "لابد أن تدفع الخمسمائة جنيه والسبعة عشر قرشاً التي اشتريت
بها بضاعة مني، والسبعة عشر قرشاً قبل الخمسمائة جنية". وبالمثل نقول:
"رأيته بعيني، وسمعته بأذني" رغم أن الرؤية لا تكون إلا بالعين، ولا
السَّمْع إلا بالأذن، وقد فات الجاهلَ الفَدْمَ أن الكلام لا يمكن أن
يجري دائماً على وتيرة آلية واحدة في كل الأحوال والسياقات، بل لابد من
نتوءات ومفاجآت تُنْعشه وتجعله جديداً أخضر، وإلا فيستطيع أي متنطع أن
يعترض مثلاً على ما جاء في الفقرة 23 من الفصل التاسع والعشرين من سفر
"الخروج"، إذ يأمر الله هارون أن يأخذ إلى المذبح "رغيفاً واحداً من
الخبز وجَرْدقَةً واحدة من الخبز"، ويتساءل: "ولم وُصِف كل من الرغيف
والجردقة بأنه واحد، والرغيف لا يكون إلا رغيفاً واحداً رغيف ولا رغيفين
ولا ثلاثة، ومثله الجردقة؟ أليس هذا تزيداً في الكلام لا جدوى منه؟ ".
هذا ما يقوله المتنطع الأملط العقل مثل "عبد الفاضي"، أما العقلاء فإنهم
يحترمون أنفسهم ولا يعترضون.؟ ومثل ذلك ما جاء في الفقرة الأخيرة من
الفصل السادس عشر من سفر "الأحبار" من قول كاتب السفر: "مرة واحدة في
السنَّة"، وكذلك قوله في آخر الفصل العشرين عن العرّاف: "فَلْيُقْتَل
(1/68) قتلاً
بالحجارة"، الذي يمكن أن يتحامق فيه أي جهول فيقول: "وهل يمكن أن يُقْتَل
أي شيء آخر غير القتل؟ فلماذا قيل إذن: "فَلْيُقْتَلْ قتلاً" ولم يُقَلْ:
"فَلْيُقْتَل" فقط؟ وبالمثل يستطيع أي بليد جاهل أن يتساءل عن السّر فيلا
جمع السُّبوت في الأعوام السبعة في آخر العبارة التالية بعد أن عُرِف أن
المدة هي سبع سنين في كل سنة منها سبعة سبوت: "واحسُبْ لك سبعة سبوت من
السنين سبع سنين سبع مرات فتكون لك أيام السبوت السبعة تسعاً وأربعين
سنة" قائلاً: "وهل يكون حاصل ضرب 7 في 7 إلا 49؟ ". ثم ما هذه العثكلة في
قوله: "سبعة سبوت من السنين سبع سنين سبع مرات" التي توحي بأن مؤلف
الكتاب كتبه وهو سكران أو مرهق يريد أن ينام؟ ومثل ذلك أيضاً ما جاء في
الآية 24 من الفصل الثامن من سفر "يشوع": "وسقطوا جميعهم بحدَ السيف عن
آخرهم" مع أنه كام يكفي، بماء على رأي المتنطع الجهول، أن يقال: "وسقطوا
بحد السيف". ومثله قول مؤلف "نبوءة زكريا على لسان الله سبحانه: "في
اليوم الرابع والعشرين من الشهر الحادي عشر الذي هو شباط"، إذ يَقْدِر
أيُّ نَزِقٍ من كينة المدعوّ عبد الفاضي أن يقول
(1/69) مستنكراً:
"وهل يمكن أن يكون الشهر الحادي عشر شيئاً آخر غير شباط؟ ". ومثله أيضاً
عبارة "مدة يوم كامل"، حيث وُصِف "اليوم" بأنه "كامل"، ومعروف أن "اليوم"
لا يمكن أن يكون إلا يوماً كاملاً لا ثلاثة أرباع يوم أو أربعة أخماسه أو
خمسة أسداسه مثلاً؟ ومثله عبارة: "ومِنْ كلَ حيَّ من كل ذي جسد اثنين من
كلً" حيث كرر عبارة "من كل" ثلاث مرات دون داع.
(1/70) يكون
تقدير الكلام: "وأسرَّوا النجوى، (أعني) الذين ظلموا: هل هذا إلا بشرَّ
مثلكم؟ "، وإما أن يبقى الكلام على حاله دون تقدير، وتكون "واو الجماعة"
في "اسرَّوا" حرفاً يدل على جمع الذكور (لا فاعلاً) كما تدل التاء في
"أقبلتْ فاطمة" على المفردة المؤنثة، أو تكون "واو الجماعة" هي الفاعل،
و"الذين ظلموا" بدلاً منها.
(1/71) وكذلك هذا
الشاهد:
(1/72) تمام
المعنى، "والأصح أن يستمر على خطاب المخاطب" (ص 111) . وهذا يعني أن ذلك
الجاهل يقيم من نفسه معياراً للصحة اللغوية والذوق البلاغي الرهيف، وهو
الذي رأيناه يخطئ الأخطاء الفاحشة في أوَليات النحو. أليس ذلك من دواهي
الزمن؟ من أين لهذا الجاهل (الذي لو كان الأمر بيدي لعهدت به إلى مدرس
خصوصي وأوصيتُه أن يقوّم عوجه وبلادته بالخيزرانة) من أين له أن الالتفات
لا ينبغي أن يُسْتَعْمل إلا إذا انتهت الجملة وبدأت جملة أخرى؟ لذلك لن
أراد على هذا السخف وسأكتفي بإظهار المغزى البلاغي والنفسي لهذا
الالتفات. والواقع أن في هذا الأسلوب تعبيراً عن الإعراض عن النخاطبين في
الآية وإظهار للزراية والإنكار عليهم، فما أكثر ما يولَى الواحد منا
صَفْحَهُ أو ظَهْرَه لمن لا يريد أن يستمر في الحديث معه احتقاراً له أو
سخطاً عليه وما إلى ذلك، فهذا من ذاك.
(1/73) إلى جماعة
الغائبين قبل تمام المعنى. ومثله قول بني إسرائيل في ابتهالهم لربهم: "قد
خطئنا إليك وتركنا إلهنا وعَبَدْنا البعليم"، حيث تحول الكلام من المخاطب
في "إليك" إلى الغائب في الاسم الظاهر "إلهنا". ومثله قول يهوديت: "الربّ
يمحق الحروب ... جعل معسكره في وسط شعبه لينقذنا من أيدي جميع أعدائنا"،
حيث انتقل الحديث من الغائب المفرد في "شعبه" إلى جماعة المتكلمين عقب
ذلك مباشرة في "لينقذنا ... أعدائنا"، وذلك قبل تمام الجملة. ومثله أيضاً
هذا القول المنسوب للسيد المسيح عليه السلام يخاطب تلاميذه: "إنكم أنتم
الذين تبعتموني في جيل التجديد. متى جلس ابن البشر على كرسيّ مجده تجلسون
أنتم أيضاً على اثني عشر كرسياً وتدينون أسباط بني إسرائيل الاثني عشر"،
حيث تغير الاتجاه من ضمير المتكلم في "تبعتموني" إلى الغيبة في قوله:
"ابن البشر". ومثله كذلك قول بولس إلى أهل أفسس: "حين كنا أمواتاً
بالزلاًت أحياناً مع المسيح فإنكم بالنعمة مخلَّصون. وأقامنا معه وأجلسنا
معه في السماويات في المسيح
(1/74) يسوع"،
حيث تحوّل الضمير من جماعة المتكلمين في "كُنّا" إلى جماعة المخاطبين في
"إنكم" ثم عاد ثانية إلى جماعة المتكلمين، وذلك كله قبل أن يتم المعنى،
فماذا يقول العبد الفاضي في هذا؟ وهناك أمثلة أخرى أكثر من الهم على
القلب!
(1/75) الآية 34
من "التوبة" عن الأحبار والرهبان: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ
وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ
بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ، وقوله جَلَّتْ قدرته في الآية 11 من سورة "الجمعة"
مخاطباً رسوله عليه السلام بشأن بعض المسلمين ممن تركوا خطبة الجمعة عند
ورود قافلة التجارة التي كانوا ينتظرونها: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً
أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} . ومغزى إفراد الضمير في الآية التي
اعترض عليها الجاهل هو أن رضا الرسول متضمَّت في رضا الله لأنه عليه
السلام إنما ينطق عن وحي السماء. وفي هذا تنبيه إلى أن رضاه - صلى الله
عليه وسلم - من الأهمية بمكان، فكأن الذي يعصيه ويُعْضِبه قد عصى الله
ذاته وأغضبه.
(1/76) لم يكتشفه
أحد من الأولين والآخرين فعرف أن للإنسان قلباً واحداً لا قلبين أو أكثر.
وأنا أحيّيه على هذا الاكتشاف وأنّبه من يقولون: "هذه الفتاة عيونها
جميله، وخدودها أسيلة، وأثداؤها كالرَمّان، وأردفها كالكثبان، وسيقانها
لا أدري ماذا" إلى أن عليهم من الآن فصاعداً ألا يستخدموا صيغة الجمع هنا
بل يستعملوا بدلاً منها صيغة المثنى. خيبة الله على كل تافه جهول! ترى
ماذا نفعل مع الشعراء والأدباء، وهم منذ خلقهم الله يميلون في كثير من
الأحيان إلى التوسع في مثل هذه التعبيرات؟ يقول الأعشى مثلاً:
(1/77) وللمرأة
ردفان اثنان، لكن الشاعر استخدام صيغة الجمع. ويقول بشامة بن الغدير في
ناقته:
(1/78) ومحمود
تيمور، فإذهبا وتوبا على يد الجاهل المتنطع حتى يكتب لكما صَكّ غفران
تضمنان بد دخول الجنة؟
(1/79)
الاستعمال. خذ مثلاً: "إن صراخ سدوم وعمورة قد كثر، وخطيئتهم قد عظُمَتْ
جداً"، حيث أُضيفت كلمة "خطيئة" إلى ضمير جمع الذكور، وكان ينبغي، بناءً
على مزاعم العبد الفاضي، أن يقال: "وخطاياهما". وخذ ثانياً: "وهكذا كانوا
يجلبون على يدهم لجميع ملوك الحثّيين وملوك أرام"، وكان يجب، طيقاً لفتوى
الأخرق، أن يقال: "على أيديهم"، إذ إنهم جماعة لا فرد، فلهم أًيْدٍ
متعددة لا يد واحدة. وخذ أيضاً: "حذّك كفلقة رمانة"، والمفروض، حسبما
يقول المتنطع، أن يقال: "خدّاك كفلقتَى رمانة". وخذ رابعاً: "ثدياك مثل
العتاقيد"، وكان ينبغي، بناء على فهمه الكليل، أن يقال: "ثدياك مثل
عنقودين". ثم خذ خامساً هذا الشاهد الذي يشبه بالضبط ما عابه ذلك البليد:
"وجعلوا أَسْوَرِةً في أيديهما وتاج فخر على أرؤسهماً"، إذ قيل:
"أرؤسهما" بدل "رأسيهما". ومثله الشاهد التالي: "إن شاء أحد أن يضربهما
تخرج
(1/80) النار من
أفواهما". أليس ينبغي بعد هذا أن يخرس كل سمج وذيل؟
(1/81) المعاندين
إلى أن القرآن مؤلف من هذه الحروف وأمثالها، ومع ذلك لا يستطيع أي بشر أن
يأتي بمثله ولا بسورة منه. ونحن إذا ما قرأنا الآية التي تلي هذه الحروف
في كل سورة تقريباً وجدنا أن هذا تفسيَّر جدً وجيةٍ، كقوله تعالى مثلاً:
{الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} (البقرة) ، {الر تِلْكَ
آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} (الحِجْر) ، {حم (1) تَنْزِيلٌ
مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (فُصَّلَتْ) ، {حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ
يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ} (الشورى) ، إذ المعنى في الشاهد الأخير على سبيل المثال إنه
من هذه الحروف وأشباهها (وهذا معنى قوله سبحانه: {كَذَلِكَ} {يُوحِي
إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ} . وقِسْ على ذلك السُّور الباقية، وإن لم يأت التعبير فيها
جميعاً على هذا النحو المباشر بل يتنوع من سورةٍ إلى أخرى. أما السورتان
أو الثلاث التي لا يوجد في أولها مثل هذه الإشارة، ففي الكلام فيها حذف
مالحذف الذي يقابلنا في كثير من آيات القرآن الكريم جرياً على سنة العرب
وغير العرب في لغاتهم.
(1/82) جفظه
للقرآن إلى "الحواميم"، وبعض العلماء يقولون إنها اختصار لأسماء الله،
وبعضهم يقول: بل هي اختصار لصفاته تعالى، فإذا أخذنا "ألم" مثلاً فإن
"الألف" تشير إلى "آلاء الله"، و"اللام" إلى "لطفه" و"الميم" إلى "مجده
وملكه" ... وهكذا. ومع أن الاتجاه الحديث في التفسير بوجه عام لا يأخذ
بهذا الرأي فإنه، رغم كل شيء، أَوْجَهُ من ذلك التفسير البهلواني الذي
يدّعى كاتب سفر "نبوءة دانيال" في العهد القديم أن دانيال قد فسَّر به
حلم الملك البابلي حين رأى في منامه كتابة مرسومة ليس لها معنّى هذا
نصّها: "مَنَا مَنَا تَقِلْ وفَرْسِين"، إذ قال له: "مَنَا أي أحصى الله
ملكك وأنهاه. تَقِلْ، أي وُزِنْتَ في الميزان فوُجِدْتَ ناقصاً. فَرِسْ،
أي قُسِمَتْ مملكتك ودُفِعْتَ إلى ماداى وفارس". ترى أيمكن أن يدخل في
رُوع أحد أن يهودياً منفياً في مملكة ذلك العاهل يمكن أن يجبهه بهذا
الكلام الفظيع؟ وأدهى من ذلك وأطمّ أن يدّعى كاتب السفر أن الملك، من
إعجابه بهذا التفسير، قد ألبسه الأرجوان وطوّق عنقه بالذهب! إن هذا لهو
المستحيل بعينه، إذ لو صحت الرواية لما كان رد فعل الملك شيئاً آخر غير
تطيير رقبة اليهودي بالسيق في التوّ واللحظة! على أن المسرحية لمَّا
تكتمل فصولاً، إذ تمضي فتقول إن الملك البابلي قد قُتِل في الليلة ذاتها
وانتقل ملكه فعلاً إلى الملك
(1/83) داريوس
المادي.
(1/84) مفسروهم
في شرحها اختلافاً شديداً ومازالوا رغم إنهم، كما قلت، لا يتقيدن بمنهج
في تفسيرهم.
(1/85) يقول به
الطبري والرازي وكثير من العلماء. وقد كنت أستغرب في البداية هذا الكلام،
إلى أن تنبهت إلى أن كثير من هذه الألفاظ منسوب لهذه اللغة السامية أو
تلك إلى جانب العربية، فمن الطبيعي إذن أن تكون موجودة في لغتنا وفي تلك
اللغات في ذات الوقت لأنها كلها منحدرة من م واحدة هي اللغة السامية،
مثلما توجد ألفاظ كثيرة مشتركة بين اللغات المتفرعة من اللاتينية. وهناك
رأي آخر مُفَاده أن هذه الألفاظ الأعجمية قليلة لا يُعْتَدً بها ولا
تُخْرِج القرآن من ثم من عروبته. وهذا القول منسوب إلى ابن عباس وعكرمة
وغيرهما. أما الرأي الثالث فيتلخّص في أن العرب قد عَلِقَتْ هذه الألفاظ
في أثناء سفرها إلى البلاد المجاورة، لكنهم عرّبوها، أي أعطَوْها شكلاَ
عربياً حتى جرت مجرى العربي الصريح. ومن أصحاب هذا الرأي أبو القاسم عبيد
بن سلام.
(1/86) عروبته؟
أبداً لأنه ما من لغة من اللغات إلا وفيها ألفاظ كثيرة جداً من اللغات
الأخرى. بل إن اللغة العالمية الأولى في عصرنا الحالي، وهي الإنجليزية،
مفعمة بالآف الألفاظ والعبارات المأخوذة بنصها من اللاتينية والفرنسية
والعربية والألمانية والفرنسية واليونانية. وفي الأسبانية، وهي أيضاً
إحدى اللغات العالمية، عدد هائل جداً من الكلمات العربية، ولا يقدح ذلك
في إسبانيتها. وقل مثل ذلك في الفارسية والتركية والسواحلية والأوردية،
ولم يدّع أحد أن هذه اللغات قد فقدت هويتها بسبب ما غزاها من جيوش
الألفاظ والعبارات العربية. إن الظن بأن هناك لغة نقية من الألفاظ
الأجنبية هو كالظن بأن هناك جنساً من الأجناس البشرية لم تخالط دماءه أية
دماء أجنبية قط، وهو ظنًّ طفوليًّ لا يقول به إلا أحمق متنطع كصاحبنا.
والعبرة على كل حال بقواعد اللغة وتراكيبها وطرائقها الخاصة بها في
التعبير والتصوير وما إلى ذلك. ولنفترض أن هذه الألفاظ مما
(1/87) يُخْرِج
القرآن عن عربيته، فإلى أية جنسية يا ترى ننسبه؟ ثم إن الكتاب المقدس عند
هذا الأُحَيْمِق وأشباهه تتداخل فيه لغات شتى كما هو معروف، فلماذا يثير
هذه الشبهة إذن؟ بل لماذا لا يثيرها إلا بالنسبة للقرآن ولم يُثِرْها
بالنسبة للغة العربية كلها؟ أم إن أفاعي حقده هو ومن وراءه لا تهيج إلا
على القرآن فقط؟
(1/88) وعلى كل
حال ففي الكتاب المقدس عند المتنطع الجهول ألفاظ من لغات شتى، إلا أنه
تمت ترجمته إلى لغة الضاد أصبحت هذه الألفاظ عربية. ومع هذا ففي الترجمة
نفسها ألفاظ كثيرة أبقاها المترجمون كمت هي ولم يترجموها إلى العربية،
مثل "الكروبون، والأفود، والإيفة، والبعليم، والترافيم، والفُور،
والفُوريم، والسَّرُوفون، والبهيموت، وماران أتا، وسِلاَه، والكِنّاره،
والمهندس، واللواياثان، ومَنَا مَنَا تَقِلْ وفَرْسِين، والتوارة،
والإنجيل، والآب، وهلَّلويا، وهُوشَعْنا، وإيلى إيلى لمّا شبقتنى،
والكرازة، ورابى، ورايونى، ويوصنَّا، وأناثيما ... إلخ".
(1/89) يستهجنه
في القرآن موجود على نطاق أوسع وأشد بما لا يقاس في كتابهم المقدس،
فالملل الذي يصيب قارئ الجزء الأخير من سفر "الخروج" وكل أسفار "الأخبار"
و"العدد" و"الاشتراع" وأوائل "أخبار الأيام الأول" أمر لا يطاق. إنه يصل
إلى حد الغثيان والدُّوار وزغللة العين: فمن سلاسل أنساب وأسماء أشخاصٍ
ومواقعَ تتابع وتتداخل ويأخذ بعضها برقاب بعض، إلى تفصيلات تفصيلات
التفصيلات، إلى حوادث ذكرها، وعهود يُعَاد صوغها ... إلخ حتى تتركك
القراءة جثة هامدة. وفي "المزامير" و"الأمثال" يظل الإنسان يطالع نفس
الأفكار والمشاعر مصوغة بنفس العبارات أو بعبارات متقاربة على مدى مائة
وستين صفحة من الصفحات المزدحمة حتى ليختنق اختناقاً. ثم هناك أسفار
النبوءات الخاصة بأنبياء بني إسرائيل التي تكتظ بتفريغ هؤلاء الأنبياء
لأقوامهم الصًلاب الرقبة وشَتْمهم لهم ولعنهم إياهم وشماتتهم بهم وتنبؤهم
بما ينتظرهم من مستقبل أسود مما يستغرق مئات الصفحات. وهذا في العهد
العتيق، أما في العهد الجديد فعندنا أربعة أناجيل كل منها يحكي سيرة
المسيح عليه السلام من البدء إلى النهاية: نفس الحوادث، نفس الأشخاص، نفس
الحوارات. وقد كانت سيرةٌ واحدةً فقط منها تكفي.
(1/90) وبالنسبة
لتكرار آية {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ؟ عدة مرات في
سورة "الرحمن" نذكّر صويحبنا الجاهل بعبارة "فإن إلى الأبد رحمته"، التي
تتابعت ستا وعشرين مرة في ست وعشرين جملة هي مجموع المزمور الخامس
والثلاثين بعد المائة، كما تكررت قبل ذلك في المزمور السابع عشر بعد
المائة في الآيات الثلاث الأولى والآية الأخيرة. ومثلها كلمة "سلاه"،
التي تتكرر كثيراً في عدد من المزامير تكراراً متقارباً. ولنأخذ أيضاً:
"سبًحوا اله في قدسه. سبًحوه في جَلَد عزته سبًحوه لأجل جبروته. سبًجوه
بحسب كثرة عظمته. سبًحوه بصوت البوق. سبًحوه بالعود والكنًارة. سبًحوه
بالدفّ والرقص. سبًحوه بالأوتار والمزمار. سبًحوه بصنوج السماع. سبًحوه
بصنوج الهتاف. كلّ نسمة فلتبًح الربّ"، وهو كل المزمور المائة والخمسين.
وفي الفصلين الأول والثاني من سفر "الجامعة" تظل تردد لإي آذاننا بإلحاح
مزعج أن "الجميع باطل وكآبة الروح". أما في بداية الفصل الثالث فتأتي
عبارة "للشيء الفلاني وقت" ثلاثين مرة على النحو التالي: "لكل غرضٍ تحت
السماء وقت: للولادة وقت، وللموت وقت. للغَرْس وقت، ولقلع المغروس وقت
... للاعتناق وقت، وللإمساك عن المعانفة وقت ... للتمزيق وقت، وللخياطة
وقت ... " وهكذا إلى آخر المرات الثلاثين. وفي الفصل الأربعين من سفر
"يشوع بن سيراخ" تتكرر عَشْرَ مرات تقريباً عبارةٌ
(1/91) "الأمر
الفلاني والأمر الفلاني شأنهما كذا وكذا، ولكن الأمر العلاّني فوق
كليهما". وفي الفصل الثالث والعشرين من إنجيل متى تقابلنا العبارة
التالية سبع مرات منسوبة للسيد المسيح في صفحة واحدة ليس غير: "الويل لكم
أيها الكتبة والفرّيسيّون المراؤون"، ومثلها في نفس الفصل عبارة "أيها
العميان" أو "أيها الجهّل والعميان" موجهةً أيضاً إلى طائفة الفرّيسييّن.
وعلى مدى الفصلين الثاني والثالث جميعاً من "رؤيا القديس يوحنا" تقابلنا
بعد كل عدة آيات قوله: "من له أذن فلْيسمع ما يوقله الروح للكنائس" ...
وهذه بَغْدُ مجرد أمثلة قليلة.
(1/92) أيضاً
بالأخطاء والتناقضات ويشوّه مفاهيم الألوهية والنبوة والأخلاق تشويها
فظيعاً.
(1/93) نَطّ يأكل
فَتّ"! يالله من هذا السخف! يالله من هذه الرقاعة! وأبعث من ذلك على
القهقهة أن تأتي هذه الملاحظة من جاهل ركيك العقل واللغة لا يستطيع أن
يصون عبارته من أخطاء النحو الأولية! لقد كلّم القرآن الكريم العرب
بالأسلوب الذي يفهمونه، ومن الطبيعي بعد كل تلك القرون أن تصبح بعض
ألفاظه غريبة على الأجيال اللاحقة. ومع ذلك فإن مقارنة سريعة لِلُغَتِه
بلغة الشعر الجاهلي تثبت في الحال أن ما فيه من ألفاظ صارت بمرور الأيام
غريبة بعض الشيء ليس شيئاً بالقياس إلى ذلك الشعر. إن هذا الجاهل لا يفقه
أن اللغة في مسيرتها مع الزمن تعتريها تطورات وتغييرات كثيرة، ومع هذا
فإن ألفاظ القرآن من أقل الألفاظ تعرضاً لمثل هذه التغييرات. وما أسهل،
على من يعرف أسباب نزول الآيات، أن يفهم النص القرآني رغم ما فيه في كثير
من الأحيان من إيجاز وتكثيف.
(1/94)
والكِنّارة، والحُمَر، والجَوْزَل، والجُذَامة، والعُمِر، والإيفة،
واليَفَاع، والشًظاظ، والعُصَافة، والظًرّان، والصًباء، والزُّوان،
والعِضاه، والقُنْدُول، والقِنَّة، والسْمَنْجُونى، والحُرُض، والرُّعَل،
والسًرافون، والشُّونير، والقَطَانيّ، والهّذيذ، والوَغْر، والخَراعِب،
والوَنَج، والسنًنْطيؤ، والأَفُود، والأَنُوق، والزُّمَّج، والوَرَل،
والحِرْذَوْن، والبَلَسان" ... إلخ ... إلخ إن كان لذلك من آخر!
(1/95) كيفما
اتفق، وهي من رسالة بولس إلى أهل روما: "لأن غير منظوراته (أي غير
منظورات الله) قد أًبْصِرَتْ منذ خَلْق العالم إذ أَدْرِكَتْ
بالمبروءات"، "فلذلك أسلمهم الله في شهوات قلوبهم إلى النجاسة لفضيحة
أجسادهم في ذواتهم"، "لذلك أسلمهم الله إلى أهواء الفضيحة، فإن إناثهم
غَيًرْن الاستعمال الطبيعي بالذي على خلاف الطبيعة"، "ويكون القَلِف الذي
بالطبيعة وهو يِتُمَ الناموي يدينك أنت الذي بالحرف والختان تتعدّى
الناموس"، "ونحن نعلم أن كل ما يقوله الناموس يقوله لأصحاب الناموس لكي
يسدّ كل فم ويصبح العالم كله مجرماً لدى الله، إذ لا يُبَرًر بأعمال
الناموس أحد من ذوي الجسد أمامه لأنها بالناموس عُرِلإت الخطيئة. أما
الآن فقد اعْتَلَنَ برَ الله بغير الناموس مشهوداً له من الناموس
والأنبياء، وهو برَ الله بالإيمان بيسوع المسيح إلى كُلَّ وعلى كُلَّ من
الذين يؤمنون لأنه لا فرق، إذ الجميع قد خَطِئوا فيعوزهم مجد الله
فيُبَرَّرون مجاناً بنعمته بالفداء الذي هو بالمسيح يسوع"، "طوبى للرجل
الذي لم يحسب عليه الربّ خطيئة. أَفَلِلْخِتان فقط هذه الطوبى أم للقَلَف
أيضاً؟ فإننا نقول إن الإيمان حُسِبَ لإبراهيم بِراً، فكيف حُسِب؟ أإذا
كان في الختان أن إذا كان في القَلَف؟ إنه لم يمكن حينئذ في
(1/96) الختان بل
في القَلَف. وقد أخذ سمة الختان خاتماً لبرّ الإيمان الذي كان في القَلَف
ليكون أباً لجميع الذين يؤمنون وهم في القلف لِيُحْسَب لهم أيضاً البِرّ"
... إلخ ... إلخ. أفيجوز لخريج هذه المدرسة الأسلوبية أن يتشامخ على
أسلوب القرآن؟ بُعْداً له وليوم أقدم فيه على تلك الجريمة!
(1/97) الفصل
الثاني
(1/98)
شبهات خاصة
بالمضمون
(1/101) (تكوين/
6/ 9) وإنه "كان كارزا للبِرّ" (2 بطرس/ 2/ 5) " (ص 31) .
(1/102) 2- "فسمعا
(أي آدم وحواء) صوت الإله وهو مُتَمَشَّ في الجنة عند نسيم النهار فاختبأ
آدم وامرأته من وجه الرب الإله فيما بين شجر الجنة، فنادى الربُّ الإله
آدمَ وقال له: أين أنت؟ قال: إني سمعت صوتك في الجنة قخشيت لأني عريان
فاختبأت" (3/8 - 10) . ترى هذا إله أم عمدة من عُمَد الريف خرج لتفقد
حقوله بعد غفوة القيلولة وهبوب نسمة العصاري؟ ثم أي إله هذا الذي يختبئ
منه عباده فلا يستطيع أن يعرف أين اختبأوا فيضطر إلى رفع صوته يسألهم أين
يختبئون؟
(1/103) أولاداً.
أولئك هم الجبابرة المذكورون منذ الدهر. ورأي الربّ أن شر الناس قد كثر
على الأرض وأن كل تصور أفكار قلوبهم إنما هو شرّ في جميع الأيام، فندم
الرب إنه عَمِلَ الإنسانَ على الأرض وأسِفَ في قلبه، فقال الرب: أمحو
الإنسان الذي خلَقْتُ عن وجه الأرض: الإنسان مع البهائم والدبابات وطير
السماء لأني ندمت على خلقي لهم" (6/1 - 7) . هل سمع أحد من عقلاء البشر
أو حتى مجانينه أن لله أولاداً؟ ومن أُمُّهم يا ترى؟ ثم عندما ذهب أولاد
الله ليخطبوا بنات الناس، هل أخذوه معهم ليفاتح آباءهن ويتفق معهم على
الشبكة والمهر والشقة والأثاث؟ ثم أي إلهٍ هذا الذي يأسف ويندم على ما
فعل؟ هذا ليس هو الله رب العالمين بل إله من آلهة الوثنيين البدائيين بلغ
من غضبه وندمه أنْ تشوًش عقله فلم يعد يستطيع أن يقُوم بأنفه العمليات
الحسابية، فمرةً يقول لنوح: خذ من كل كائن حيَّ اثنين اثنين ذكر وأنثى،
ثم ينسى ما قاله بعد قليل فيجعل العدد من الحيوانات الطاهرة ومن طير
السماء سبعةً سبعةً ذكوراَ وإناثاً، ليعود مرة أخرى إلى عَدَد الاثنين.
ولقد مرّ في النص السابق أنه كان هناك جبابرة كثيرون قبل الطوفان: قبل أن
يتخذ أبناء الله بنات
(1/104) الناس،
وأيضاً بعد أن اتخذوهن لهم نساء، إلا أن كاتب هذا السفر، كعادة مؤلفي
الكتاب المقدس، قد نسى هذا فقال عن نمرود (حفيد ابن نوح، الذي وِلُد بعد
الطوفان بزمن طويل) إنه "أول جبار في الأرض". وحتى نمرود هذا لا ندري
بالضبط من أبوه: فمرة يذكر الكاتب أبناء كوش بن حام بن نوح فلا يورد
بينهم اسم نمرود، لنفاجأ به بعد أقل من سطر يقول: "وكوش وَلَدَ نمرود".
(1/105) لعبيد
إخوته، مع إنه لا ذنب لحام فضلاً عن كنعان المسكين الذي لا ناقة له في
المسألأة ولا جمل، ولكن يبدو أن السكّير لم يكن قد أفاق تماماً من الخمر
فلم يكن يدري ماذا يقول ولا ماذا يفعل، ولا على من يدعو ولا من يلعن.
أَوَمثْل هذا اللعْان للأبرياء يستبعد العبد الفاضي أن يدعو على الظالمين
من قومه؟ أهكذا يخرجك حقدك يا عبد الفاضي على سيد الأنبياء عن كل عقل
وفهم؟
(1/106) فعل من
قبل، إذ لجأ إلى وسيلة تذكّره إذا سها، ألا وهي إنه عند سقوط المطر
يَظْهَر قوس قزح، فإذا رآه تنّبه فلم يرسل عليهم الطوفان.
(1/107) المسيحُ
نفسُه شجرةَ تين حسبما هو مكتوب في الأناجيل لا لشيء سوى إنه لم يجد فيها
تيناً لأن الموسم لم يكن موسم تين. فما وجه الغرابة إذن أن يدعو نوح على
الظالمين من قومه بأن يزيدهم الله ضلالاً، أي بألا يعطيهم سبحانه فرصة
أخرى بعد أن استنفذوا كل الفرض على مدى مئات السنين التي ظل يدعوهم فيها
إلى الله عبثاً فأصرّوا على ما هم فيه من ضلال؟ ما وجه الغرابة في هذا
أيها التعيس؟
(1/108) بها ذلك
التعيس هي جزء من بشارة ملاك الرب لهاجر أم إسماعيل (عليها وعلى ابنها
السلام رغم أنف الحقَدة من بني إسرائيل ومن يشايعونهم في هذا الحقد
عليهما) ، وذلك حين هربت من المعاملة المذلّة التي كانت تعاملها بها سارة
عليها السلام حسبما يقول كاتب سفر "التكوين". وهذه هي بشارة الملاك
كاملة: "لأُكَثًرنً نسلك تكثيراً حتى لا يُحْصَر لكثرته. وقال لها ملاك
الرب: هأنت حامل، وستلدين ابناً وتسمينه إسماعيل لأن الرب قد سمع صوت
شقائك، ويكون رجلاً وحشياً: يده على الكل، ويد الكل عليه، وأمام جميع
إخوته يسكن". واستحلفك أيها القارئ الكريم: أهذه بشارة أم مثلاً بقصرٍ
فخم لن يجد فيه راحة أبداً بل ستكون أيامه فيه كلها شقاءً ونكداً، أو أن
يقول له: إني واهِبُك يا عبدي ثروة هائلة تنفقها إن شاء الله على أمراضك
وأمراض أولادك المستعصية؟ بالله أهذه بُشْرَى؟ إنها لإنذار بالهمّ والغمّ
والشقاء! والمضحك أن هاجر، كما جاء في الآية التي بعد ذلك، تبتلع في
سذاجة مطلقة لا تُحْسَد عليها هذا الكلام الذي لا يدخل العقل وتعُدَه
مكرمة عظيمة!
(1/109) أما الأمر
الثاني فهو أن الكتاب المقدس لا يذكر شيئاً من هذا التوحش الذي دمغ به
إسماعيلَ ملفَّقُ الكلام السابق، بل على العكس نرى يعقوب بن إسحاق يذهب
فيتزوج مَحْلةَ بنت إسماعيل بدلاً من بنت خاله التي أمره أبوه باتخاذها
امرأة له. فأين التوحش هنا؟ وواضح أن يعقوب كان يعرف أنه لا تصلح له بنت
أخى أمه، تلك الأم التي أضرمت بينه وبين أخيه عيسو نار الكراهية والتقاتل
حسبما جاء في العهد العتيق فابتعد عن كل ما له صلة بأمه وأخذ بنت عمَّه
الرجلِ النبيلِ الذي افترى عليه الزورَ ملفقُ سفر "التكوين" الكذابُ
الأَشِر.
(1/110) يعقوب
البركة بالتزوير. وعند رجوع عيسو من الصيد وعلْمه بما وقع يخبر أباه بما
حدث فيكون ردّه إنه لا يستطيع له شيئاً لأن البركة قد أخذها أخوه، وما
انكسر لا يمكن إصلاحه، ولا أدري لماذا، فالمفروض أن المكر السيء لا يحيق
إلا بأهله، بَيْدَ إنه كان لنبي الله يعقوب رأي آخر. ولكن فَلْنُعِدّ عن
هذه أيضاً، وإلا فلن ننتهي، فكل العهد العتيق هكذا، فإذا ذهبنا نرقّعه
تَمَزَّق في أيدينا! اللهم أن البغض والحقد والتناحر قد طبع منذ ذلك
الحين العلاقة بين الأخوين بطاعبه الخبيث، والبركُة في الأم، التي يجعلها
أهل الكتاب نبيه من أبيائهم، وكأن الحِنْث والشر والكذب والإجرام والخداع
والتلفيق هي مؤهلات النبوة عندهم. أرأيتم، أيها القراء الأعزاء، في أي
معسكر يُوجَد التوحش: في إسماعيل عليه السلام وذريته أم في المعسكر
المقابل؟
(1/111) يكن له
وجود البتة أو كأنه على الأقل لم يكن قد وِلُد بعد. وتفصيل الأمر أن
إسماعيل، كما هو معروف وكما جاء في الكتاب المقدس نفسه، قد وِلُد قبل
إسحاق بعدة أعوام، ومع ذلك يقول ملفق سفر "التكوي"، الذي يتنفس الكذب
تنفّساً ويتمتع بوجه وقح فلا يطرف له جفن، وهو يقترف الكذب جهاراً نهاراً
وعلى مرأى ومسمع من العالمين، هذا الملفق الكذاب يقول إن الله أراد أن
يمتحن إيمان إبراهيم فقال له: "خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق وامض إلى
أرض موريّة وأًصْعِدْه هناك مُحْرَقةً على أحد الجبال الذي أُريك ... ".
(1/112) للقارئ أن
فوق كل ذي مكر من هو أمكر منه. لقد شاهد يعقوبُ أثناء ترحاله إلى الشرق
بنتَ خاله راحيل وهي تسوق غنهما إلى البئر، وكانت راحيل جميلة، فأخذت
بلبّه، وجاء أبوها فعانقه وقبّله وأخذه إلى بيته حيث مكث عنده سبع سنين
خدمه فيها لقاء التزوج بحبيبة قلبه. بَيْدَ إنه في صباحيّة دخوله بها في
آخر السنوات السبع فوجئ بأن خاله قد زوّجه بدلاً منها ليئة أختّها
العاطلة من الجمال. أي إنه أعطاه "مَقْلباً سُخْنا"، ومن شابه أخته فما
ظلم! ورغم ذلك يصف مؤلفُ سفر "التكوين" إسماعيل بالتةحش والنفور من
الخَلُق ويفور الخَلْق منه! وثمة نقطة أخرى في القصة تدل على سذاجة هذا
الملفّق الذي يكذب ولا يعرف كيف يسوَّى كذبه كما يقول أهل الريف، إذ يذكر
أن يعقوب لم يتبيّن الخدعة إلا في الصباح. أي إنه قضى الليل كله في أحضان
ليئة وهو يظنها راحيل! ترى ألم يكن هناك نور في تلك الليلية البتّة؟ وحتى
لو لم يكن هناك نور، أكانا يمارسان الجنس في فلم من أفلام السينما
الصامتة فلم يتعرف يعقوب على عروسه من صوتها؟ أنظر أنت أيها القارئ
وتعجَّبْ، أما أنا فسأسكت! ثم يقولون بعد ذلك كله إن هذا وحي إلهي!
(1/113) ولكن هل
هذا هو كل شيء؟ كلاً، فما زلنا في أول فصول المسرحية الهزْلية، وإن كنت
لا أنوي أن أحكي كل فصولها بل سأجترئ ببعضها، وبمكنة القارئ أن يقيس ما
لم أحْكِه على ما حكيتُه. وها نحن أولاء الآن مع أولاء يعقوب، الذين
مزقتهم الأحقاد بسبب المعاملة المتحيزة التي كان أبوهم يميز بها بعضهم
على بعض. ومعروفة قصة يوسف وتآمر إخوته عليه مما حكاه العهد العتيق
والقرآن الكريم جميعاً، وهو تآمر بشع يدل على المدى الوحشي الرهيب الذي
بلغه الإنشقاق بين أولاد يعقوب. ثم لا يستحي ملفّق سفر "التكوين" فيرمى
إسماعيل عليه السلام بالوحشية والنفور رغم كرمه ونبل طبعن وأخلاقه! إلا
أن فضائح بيت بعقوب طبقاَ لرواية العهد العتيق لم تنته بعد، فقد وقعت
دينة بنت يعقوب في غرام شكيم بن حَموُر الوثني الأقلف ومارست معه
الفاحشة، كما زنى أخوها يهوذا بثامار أرملة ابنه عير وهو يحسب أنها بغيَ،
إذ كانت أخذت زينتها وهَيأت نفسها له وترصدته حتى أوقعت به وهي متنقبة.
ومن بجاحته إنه، عندما أنها قد اشتغلت بغياً، أمر بإخراجها
(1/114) لتُحْرَق
جزاء ممارستها للبغاء، لكنْ ما إِنْ عرَّفته أنما مارست معه الزنا لا مع
غيره حتى خَرِسَ وأكفأ على الخبر ماجورا، وعفا الله عما سلف!
(1/115) اللحن
الأخرى المتناسقة. وعلى أية حال فهما كل ما هنالك من رد فعل على هذه
الفاحشة النكراء! حقاً إنها عائلة شريفة!
(1/116) تامار،
ولم يفاتحه أبوه بكلمة حرصاً على ألا يؤلمه لأنه كان يحبه. أََنْعِمْ
وأَكْرِمَ! ورغم ذلك كله يشمخ العبد الفاضي على إسماعيل عليه السلام
قائلاً إنه لا يصلح للنبوة. هل رأيتم وقاحة من قبل كهذه الوقاحة؟
(1/117) ثم إن بني
إسرائيل كانوا على امتداد تاريخهم الطويل ولا يزالون يبغضون الأمم الأخرى
وتبغضهم الأمم الأخرى حتى ضُرِب المثل بـ "الجيتو" و"حارة اليهود" حيث
يعيشون في عزلة عن سائر أهل البلاد التي ينزلونها. وأسفار العهد العتيق
تضطرم باللعنات والنبوءات القاتمة الي تنتظر ذلم الشعب الصُّلْب الرقبة،
وهو دائماً وأبدا محطّ سخط وشتائمة ورزاياه. لنستمع معاً إلى أَشَعْيَا
على سبيل المثال وهو يصرخ في غضب ويأس من صلاح حال أولئك الأوغاد:
"السّيد (أي الربّ) أرسل كلمةً على يعقوب فوقعتْ على إسرائيل، وسيعلم
الشعب كله ... سيُنْهِض الربّ عليه أضداد رَصِينَ ويسلّح أعداءه: أرام من
الشرق، وفلسطين من الغرب، فيأكلون إسرائيل بكل أفواهم ... سيقطع الرب من
إسرائيل الرأس والذَّنب ... بغضب رب الجنود تضطرم الأرض فيكون الشعب مثل
وقود النار، لا يشفق واحد على أخيه ... يأكلون كلُّ واحد لحم ذراعه:
منَسَّى أفرائيم، وأفرائيم منَسَّى، وكلاهما يقومان على يهوذا. ومع هذا
كله لم يرتدً غضبه، ولم تزل يده ممدودة".
(1/118) إسحاق،
وهؤلاء هم أولاده وأحفاده كما يعرضهم الكتاب المقدس: خَناً وغشَّ وكذبٌ
وقتل وتآمر خسيس وزنا بالمحارم وحقد وقتال فيما بينهم ومع الآخرين؟ ولقد
انتهى أمر السيد المسيح مع بني إسرائيل إلى أن أدار ظهره لهم بعدما لقى
منهم الأمرًّين وأعطى وجهه للأمم الأخرى وطلب من تلامذته أن يحملوا دعوته
إليهم طبقاً لما تقوله الأناجيل ذاتها. أَفَلَكَ بعد ذلك أيها الأحمق
عينٌ تجرؤ على مواجهتنا بها؟
(1/119) ذكرتُها
لهم، يستطيعون أن يدركوا إلى أي مدّى بلغ جمود وجه هذا الأحمق الذي
يتظاهر بطيبة الطوية ويستغرب أن يصل التدلة بامرأة ضابط كبير إلى ذلك
الحدّ. يا أخا الحماقة، إن الترف الإجرلامي ليؤدي إلى هذا وإلى ما هو
أشنع من هذا كما يعرف كل الناس. وماذا يُنْتَظَر من امرأة كانت تطارد
ابنها بالتبني على النحو وتقول له بصريح العبارة كما جاء في كتابكم
المقدس: "ضاجِعْني" (هكذا بالحرف الواحد) ؟ ثم إن زوجها، طبقاً لما جاء
في كتابكم، كان خصياً، أي إنها كانت تعاني من الحرمان الجنسي المطلق. كما
أن أولئك النسوة قد فَضَحْنَها في كل مكان بالمدينة فلم يعد هناك معنى
لاحتفاظها ببرقع الحياء، إذ وقعت الواقعة وانتهى الأمر.
(1/120) الحرام من
وراء رفيقه. وقبل ذلك بسنوات كان التلفاز مشغولاً في نشراته لفترة طويلة
بعشق الأميرة آن (أخت تشارلز) للضابط مارك فيليس وبعشق خالته الأميرة
مرجريت لأحد المصوَّرين. وقل مثل ذلك في زوجتَىْ أخويه. كذلك فالأحمق
يعرف جيداً ما كان يفعله بعض بابوات روما في العصور الوسطى، إذ يصطحب
الواحد منهم عشيقته معه وهو يدور على رعاياه في جولاته "المقدسة"
(المقدسة جداً) بوصفه خليفة المسيح على الأرض (ومعروف ما يمثله المسيح
عليه السلام عند النصارى) ، فضلاً عن أن بعضهم الآخر كان يمارس الزنا مع
أخته بعلم من حوله على أقل تقدير!
(1/121) بعض رجاله
أن يخلّصوه من أوربا زوجها حتى يخْلُص له وجه بَتْشَيَع ومعنى ذلك ثالثاً
إنه لم يخجل من إبداء تدلهه في هواها وما استتبعه هذا التدله من القضاء
على الزوج المسكين. أفِقْ يا عبد الفاضي من أوهامك السخيفة، ولا تحاول أن
تقترب من القرآن لأنه {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} !
(1/122) الذي
فعلتْه صواحب يوسف بجانبه شيئاً يستحق الذكر.
(1/123) فكيف يكون
هذا وزيراً لذام؟ ويقول سِفْر "أستير" في التوراة إن هامان كان وزيراً
وخليللاً لأَحْشَوِيرش ملك الفُرْس الذي يدعوه اليونان زركيس" (ص 29) .
(1/124)
إمبراطورية تمتدّ من الهند إلى كوش، وتتألف من مائة وسبعة وعشرين
إقليماًَ، وعاصمتها شوش، لكن صويحبنا الجاهل يقول إن هامان كان وزيراً في
بابل!
(1/125) المؤلف
حول ذكرها قصة خيالية".
(1/126) والدياثة
المعروفين عن القوم. ورغم ذلك يريد رقعاء المبشرين منّا أن نصدق إنها
حادثة تاريخية سجّلها الوحي الإلهي ويَبْغُون أن يحاكموا القرآن إليها.
(1/127) من أن
المسيح عندما يولد سيكون اسمه "عمانوئيل"، وهو ما لم يحدث، إذ لم تسمّه
أمّه أو غيرها من أهل الكتاب أو من أهل القرآن أو من أية طائفة أخرى بهذا
الاسم. وفي العهد العتيق أيضاً أن هارون أكبر من موسى بثلاثة أعوام، على
حين إنه قد أشار بكل وضوح قبل ذلك بصفحات أن موسى هو أول من وُلِد
لأبويه. ترى أي الروايتين نصدّق؟ وفيه أيضاً أن إسماعيل وُلِد لإبراهيم
قبل إسحاق بأعوام، ومع هذا نفاجأ بعد قليل بأن إسحاق هو وحيد إبراهيم
عليه السلام رغم إن إسماعيل كان حياً آنذاك وبعد ذاك بعشرات الأعوام.
ومرة أخرى نتساءل. أيّ الكرمين نصدّق؟ وهل يمكن أن يكون هذا التناقض
الفِجّ وحياَ سماوياً؟
(1/128) وحتى لو
كان هامان فعلاً وزيراً لأحشوروش الملك الفارسي، فهل ثمة ما يمنع أن يكون
هناك شخص آخر اسمه "هامان" في مصر قبل ذلك؟ أم ترى هناك قانون حتمي يفرض
أن يختصّ كل اسم بشخص واحد أو مكان واحد لا يعدوه؟ إن هناك أكثر من مدينة
في العالم اسمها "Cairo"،
وأكثر من مدينة اسمها "الإسكندرية"، وهناك مكانان على الأقل كلّ منهما
يسمى "باريس": عاصمة فرنسا، وقرية مجهولة في صحراء مصر الغربية لولا أن
د. أحمد أمين قد ذكرها في كتابه "حياتي" لما علم بها أحد. وهناك الزعيم
الروسي "لينين" والكتاب المسرحي المصري "لينين الرملي"، وهناك "فرعون"
مصر المذكور في القرآن و"فرعون" آخر جاء بعده بآلاف السنسن هو جدّ "رشاد
فرعون" أحد رجال الحاشية في عهد الملك عبد العزيز آل سعود، وهناك "رمسيس"
أحد ملوك مصر القديمة و"رمسيس" رسام الكاريكاتير المعروف في مصر، وهناك
"حيرم" ملك صور و"حيرم
(1/129) الغمراوي"
كاتب الأغاني المصري في عصرنا ... إلخ ... إلخ.
(1/130) يؤكد صحة
ما جاء القرآن عن هامان أن هذا الاسم موجود في البرديّات المصرية بما يدل
على إنه اسم مصري ويُخْرِس الطائشين الجهّال الذين يفكرون بألسنتهم دون
عقولهم!
(1/131) قصة موسى
وهارون لصلتها بهامان: فالعهد العتيق يقول إن أم موسى قد وضعت وليدها في
التابوت (أو "السَّفَط" كما يسمونه) وظلت تحمله إلى أن وصلت قبالة قصر
فرعون فوضعته بين الحَلْفاء حيث عثرت عليه ابنة فرعون فأخذته. أي أن
التابوت لم يوضع في الماء رغم أن كاتب سفر "الخروج" يقول إن أم موسى قد
طلت السَّفَط بالزفت والحُمَر بما يدل على أنها قد أعدَتْه لتضعه في
النهر ورغم أنه ابنة فرعون تقول بعد ذلك بأسطر قليلة إنها انتشلته من
الماء، أما القرآن الكريم فقد ذكر منذ البداية أن التابوت قد وُضِع في
الماء قولاً واحداً.
(1/132) وبالنسبة
لمعجزة اليد فإن العهد العتيق يؤكد أن يد موسى، عند وَعْه إياها فب عُبةً
ثم إخراجها، كانت تستحيل "برصاء كالثلج"، أما القرآن فيقول إنها كانت
تصير "بيضاء من غير سوء". وواضح أن القرآن الكريم، بهذا التذييل الأخير،
يريد أن يرد على تهمة البَرَص، الذي لا يصلح بحال من الأحوال أن يُتَّخَذ
معجزة لأن المعجزة إنما جُعِلَتْ لجذب الناس إلى صاحبها لا لتنفيرهم منه
وصرفهم عنه وإشعارهم إنه مغضوب عليه من الله.
(1/133) التي
اقتضت اختياره رسولاً إلى بني إسرائيل، وهذا هو الذي يتلاءم مع أخلاق
النبيين.
(1/134) ومن طوامّ
العهد العتيق أيضاً اتهام كاتب سفر "الخروج" لهارون عليه السلام بأنه هو
الذي صنع العجل لبني إسرائيل وبَنَى كذلك لعبادته مذبحاً حيث أخذ بنو
إسرائيل، أثناء غياب موسى للقاء ربه فوق الجبل، يدورون حوله عراه كما
ولدتهم أمهاتهم وهو يرقصون. وهي شِنْشِنةٌ يهودية أصلية في الإفتراء على
رسل الله الكرام وإلصاق أشنع التُّهَم بهم تلذذاً بتشويه كل صورة إنسانية
نبيلة. وعلى العكس من ذلك القرآنُ الكريمُ، الذي يؤكد أن صانع العجل هو
السامري، أما هارون فقد حاول الوقوف في وجه هذه الفتنة التي لقيتْ من بني
قومه التحمس والتهافت، إلا أنهم ظلوا في غيّهم سادرين. وفوق ذلك فرواية
سفر "الخروج" تتناقض مع نفسها تناقضاً أبلق، إذ تقول إن موسى قد أمر بني
لاوى (وهو واحد منهم) أن يقتلوا جميع ذويهم وأصدقائهم وأهل محلّتهم الذين
اقترفوا خطيئة العجل، وأن محصّلة القتل كانت ثلاثة آلاف نفس، إذ يثور هنا
(كما يقول أبو الأعلى المودودى) سؤال هام هو: لماذا لم يُقْتَل هارون
أيضاً إذا كان هو صاحب عبادة العجل؟
(1/135) وبغباءٍ
منقطع النظير سببه الجهل والحقد والعناد يزعم العبد الفاضي أن في كلام
القرآن عن نهاية فرعون تناقصاً، إذ يقول سبحانه في سورة "القصص"/40:
{فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} ، بينما يقول
في سورة "يونس"/91 - 92 مخاطباً فرعون عندما أدركه الغرق فصاح معلناً
إيمانه: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ
(91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ
آيَةً} ، فيظن الجهول إنه - عز وجل - قج نجَّي فرعون من الموت! متى قال
القرآن ذلك؟ وأين؟ واضح إنه قد فهم من قوله جل جلاله: {فَالْيَوْمَ
نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} أن فرعون لم يمت. فهل هذا هو ما تقوله العبارة؟
إن معنى الكلام في الآية أن الله وعد بأن يطرح البحرُ جثته على الشاطئ
فلا تأكلها الحيتان والأسماك في قاعه حتى يكون عبرة لمن وراءه، أما لو
كان المقصود هو أن الله سينقذه من الغرق إلى مصر كأن شيئاً لم يكن فإنه
لن يكون عبرة لغيره بل فتنة، إذ ها هو ذا يعود، بعد كل كفره وضلاله وبغيه
وتألهه، إلى سلطانه وهيلمانه كرة أخرى!
(1/136) البحر
أبدانَ فرعون وجنوده بعد غرقهم، إذ قال مؤلف سفر "الحكمة": "وعَبَرَتْ
بهم (أي عبرتْ رحمةُ الله ببني إسرائيل") البحر الأحمر وأجازتهم المياه
الغزيزة. أما أعداؤهم فأغرقتْهم ثم قذفتْهم من عمق الغِمار على الشاطئ".
ومن قبله قال مؤلف سفر "الخروج": "فغرّق الربُّ المصريين في وسط البحر،
ورجعت المياه فغطّتْ مراكب وفرسانَ جميع جيش فرعون الداخليين وراءهم في
البحر، ولم يبق منهم أحد، وسار بنو إسرائيل على اليَبَس في وسك البحر،
والماء لهم سوّر عن يمينهم وعن شمالهم. وخلَّص الربُّ في ذلك اليوم
إسرائيل من أيدي المصريين، ورأى إسرائيل المصريين أمواتاً على شاطئ
البحر". ترى أفَهِم الأبعد أم على قلوب أقفالها؟
(1/137) كَانُوا
سَابِقِينَ} ، كما جاء في سورة "غافر"/ 23 - 25: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا
مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ
وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا
جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ
الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ
الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} . أما اعتراض الأُحَيْمق فهذا نصُّه:
"يتبادر إلى الذهن من هذه الآيات أن قارون وهامان مصريان من قوم فرعون
وأنهما مع فرعون قاوموا موسى في مصر. ولكن هذا خطأ لأم قارون إسرائيلي لا
مصري، ومن قوم موسى لا من قوم فرعون كما جاء في سورة "القصص"/76: {إِنَّ
قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} (ص 29) .
(1/138) سببه
انحيازه إلى فرعون وملئه وتفانيه في خدمتهم وتعاونه معهم. فما المشكلة في
ذلك؟ المشكلة في الواقع هي في عقل هذا الأُحَيْمِق لا في النصوص القرآنية
البريئة التي يقوّلها الغبيّ ما ليس فيها.
(1/139) الياء
للنسب فقد تكون النسبة إلى "سامر" صاحب الجبل الذي أُقيمت عليه مدية
"السامرة" فيما بعد، أو إلى "شيمر" (بالإمالة) ، وهو اسمّ مصري بمعنى
"غريب" لا يزال حتى الآن منتشراً في مصر بعد تعريبه، أو إلى أي مكان آخر
في أرض الكنانة أو غيرها، إذ قد تتعدد الأمكنة والأشخاص، والاسم واحد،
وذلك مثل جبل الكرمل، الذي كان اسماً لجبلين مختلفين على حسب ما يقوله
شراح العهد العتيق أنفسهم: أحدهما على البحر المتوسط، والآخر في أرض
يهوذا. أم إنه حلال لهم وحرام علينا؟ ويرى عبد الله يوسف على أن من
المحتمل أن تكون طائفة "السامريين" هي المنسوبة إلى "السامري" لا العكس.
(1/140) وإن تعجب
فعجبٌ أن يأنس هذا الببغاء الجرأةَ في نفسه فيهاجم القرآن فيما لا مجال
فيه للطعن ويَعْمَى عن المشكلة التي تثيرها "أرض عوص" الوارد ذكرها في
مطلع سِفْر "أيوب" بوصفها البلد الذي كان يسكنه ذلك الرجل. لقد وقف
المفسرون الكتابيون حيارى لا يستطيعون تحديد "عوص" هذا، إذ "ورد في سلسلة
المتقدمين ثلاثة يحملون هذا الاسم: أحدهم عوص بن أرام، والثاني عوص بن
ناحور، والثالث عوص بن ديثان، فلا يُعْلَم أيهم المراد بنسبة هذه الأرض
إليه"، بل إن موضع هذه الأرض غير معروف على وجه الدقة. كما أن اسم "سمعان
القيرواتى" المعاصر للسيد المسيح في فلسطين يثير مشكلة أعقد من هذه
كثيراً، إذ أين سمعان هذا من "القيروان" المنسوب إليها، وهي من بلاد تونس
البعيدة التي تفصلها عن فلسطين آماد شاسعة، ولم تُبْنَ إلا بعد ذلك بقرون
على يد عُبْة بن نافع سنة 762م؟
(1/141) إن ذلك
الاتهام ليس له من معنى سوى إنه سبحانه لم يحسن الاختيار، إذ انتقى شخصاً
لتأدية مهمة ما، فإذا به يرسب في أول امتحان، ثم هو مع ذلك يظل متمسكاً
به بل يأمر بقتل كل من اشترك في عبادة العجل ويُعْفِى الرأس الأكبر الذي
تولَّى كِبْر الجريمة فصنع العجل وبنى له المذبح وأشرف على عملية الطواف
والرقص العاري حوله في صخب وعُهْر! ولكن متى كان للقوم عقول يفكرون بها
أو حتى آذان يسمعون بها؟
(1/142) داثان
وأبيرام على موسى ففتحت الأرض فاها وابتلعتهم (العدد/ 16) " (ص 47) .
(1/143) يأتي
الأحمق بعد ذلك كله إذن ويقول ما قال؟ أهو مجرد عناد والسلام؟ وإذا كان
القرآن يقصد كروسوس ملك ليديا، فما الذي منعه من أن يقول ذلك يا ترى؟
(1/144) الله أن
يأخذ حزمة فيها مائة عود يضربها بها ضربة واحدة فلا تقع يمينه؟ وأين أيوب
من يعقوب حتى يتزوج ابنته أو من يوسف حتى يتزوج حفيدته؟ والمعروف أن أيوب
سابق ليعقوب ويوسف تاريخياً. وهذه القصة موجودة في خرافات اليهود
القدماء" (ص 56) .
(1/145) بيدي حتى
أجتاز، ثم أُزيل يدي فتنظر قفاي، أما وجهي فلا ترى". وهي حيلة ظريفة
للالتفاف حول القانون الإلهي الذي يستحيل بناءً عليه رؤية الله، إذ ما
علينا عندما نعلم باقتراب مرور الله من أمامنا إلا أن نضع أيدينا على
عيوننا أو ننظر إلى الجهة المقابلة، حتى إذا ما تيقَّنّا من مروره سارعنا
فأبصرنا قفاه! لكن فات الأبلة مؤلف هذه القصة أن يصف قفاه سبحانه! وعلى
أية حال فإن العهد القديم كعادته يناقض نفسه في هذه القضية، إذ يقول في
موضع آخر إن موسى "كان يكلمه الرب وجهاً لوجه كما يكلم المرء صاحبه".
وهذا طبعاً هو الكلام غير الخرافي!
(1/146) الضغث،
فما وجه العيب في الحلّ الذي قدّمه الله له؟ لقد حلف الرجل أن يضرب
زوجته، فدلَّه الله على طريقة ينفّذ بها قَسَمه دون أن يؤلم شريكة عمره،
فما الخطأ في هذا؟ ثم إن هذا الجزء من قصة أيوب غير موجود في العهد
العتيق، فِلمَ يسارع ذلك الجاهل بتكذيبه، وبخاصة أنه غير موجود أيضاً في
القرآن الكريم؟ إن هذا كله عراك في غير معترك!
(1/147) فيه،
وسَخِر من القضاء الإلهي الذي يصبَ الشقاء على الأبرار ويغمر الفجرة
بألوان النعم والسعادة، وتمنّى لو كان هناك قاضٍ يحتكم هو والله إليه حتى
يتبين لله ظلمه وخطؤه، وأخذ ينوح نواحاً متصلاً، وكلما حاول أحد أصدقائه
تهدئته ولفت نظره إلى تجاوزاته مع الله لزداد سخطاً وتمرداً، وذلك على
مدى عشرات الصفحات، مع بعض الفَيْئات القليلة إلى الرضا أثناء ذلك.
أَفَمَنْ يتمرد ويجدّف على ربه على هذا النحو، أُيسْتَبْعدُ أن يحلف
لَيَضْرِبَنً امرأته لإبطائها عليه؟ لا ننس أنه لا العهد العتيق ولا
القرآن الكريم قد تعرض لهذه التفصيلة، ولكنني أردت أن أبين للقارئ سخف
المنطق الذي سوّل لجاهلنا المسارعة إلى الأعتراض على البيضاوي.
(1/148) أمامهم؟
أين أهل سبأ من فلسطين، وبالذات في ذلك الزمن الموغل في القدم حيث كانت
وسائل المواصلات بدائية وشديدة البطء؟ لقد كانت سبأ في بلاد اليمن،
وبينها وبين فلسطين مسافات صحرارية رهيبة، فكيف يأتي الرعاة منها ليهجموا
على مواشي أيوب في تلك الأزمان السحيقة التي كانت وسيلة السفر فيه هي
الأقدام أو ظهور الجمال على أحسن تقدير؟ وهذا لو كانت سبأ موجودة في ذلك
الوقت، بَيْدَ أن مملكة سبأ لم تظهر إلى الوجود إلا في القرن الثامن قبل
الميلاد، على حين أن يعقوب، الذي يؤكد الأحمق المائق إنه متأخر في الزمن
عن أيوب، كان يعيش في القرن الثامن عشر قبل الميلاد، أي إنه كان باقياً
على سبأ، لكي يكون لها مكان على خريطة الوجود، عشرة قرون أو تزيد!
فتأمَّلْ واعجَبْ أيها القارئ!
(1/149) إنها بنت
هالي (لوقا/3/23) ؟ أم كيف يقول القرآن إنها بنت عمران أبى موسى وإنها
أخت هارون مع أن بينها وبين عمران وهارون ألفا وستمائة سنة؟ (ص 30) .
(1/150) وبين ما
يختار. ومع ذلك فعند النصارى رواية تقول إن مريم هي ابنة يواقيم، إلا أن
هذه الرواية ليست محل ثقتهم. ومرة أخرى نتساءل: علام يدل هذا؟ ألا يدل
على أن أمورهم كلها معجونة بماء الاضطراب والشك؟ فكيف بالله يجد مثل هذا
الأحمق في نفسه البجاحة على تخطئة القرآن الكريم الذي لا يمكن أن يطوله
الخطأ؟
(1/151) والذي
سماها كذلك ليس هو القرآن بل قومها. فانظر بالله عليك إلى هذا المدلَّس
المفضوح الذي يتقوّل على القرآن الأكاذيب!
(1/152) النبّوة
لله فما أسهلها وما أرخصها في الكتاب المقدس: فإسرائيل ابنه البكْر،
وداود أيضاً ابنه البِكْر، وإفرائيم هو كذلك ابنه البِكْر! وقد رأيناه ما
جاء في سلسلة نسب المسيح من أن آدم هو ابن الله، ولن ننسى بطبيعة الحال
ما يقوله النصارى عن عيسى وبنوته هو أيضاً لله. وهناك، فوق هذا كله،
"أبناء الله" التي أُطْلِقَتْ على ما لا أدري كم من الجماعات المختِلفة!
فيا أيها الأحمق، مادامت ذمتكم واسعة بهذا الشكل، فلماذ تضيقون بتسمية
مريم بـ "ابنة عمران" حتى لو كانت هذه تسمية مجازية؟ وفي هذه الحال سيكون
القرآن مجرد حاكٍ لما كانوا ينادونها به حسب تقاليدهم في نسبة الشخص إلى
جدَّ له بعيد مشهور. بعضاً من حمرة الخجل يا عقل العصفور! أما القول بأن
فلاناً أو علاناً أو ترتاناً ابنّ لله فإن المسلمين لا يُقْدِمون على مثل
هذه الشُّنْعة، إذ هم يعرفون مقام الألوهية وما يجب لها من الإجلال
والتوحيد!
(1/153) ويأخذ
العبد الفاضي على القرآن ما يسميه "خَلْط الأسماء" حيث تقول الآيات 84 -
86 من سورة "الأنعام" عن إبراهيم عليه السلام: {وَوَهَبْنَا لَهُ
إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ
وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ
وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84)
وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ
(85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا
عَلَى الْعَالَمِينَ} . ووجه اعتراض العبقري الذي لم تلده ولادة في
السُّخْف وضلال العقل أن ترتيب الأنبياء هنا لا يجرى على ترتيبهم
التاريخي (ص 36 - 37) .
(1/154) الكتاب
قائم على ترتيب الأحداث التي وقعت لبني إسرائيل ترتيباً تاريخياً، إذ
وردت تلك الأسفار فيه على النحو التالي: أشَعْيا ثم إرميا ثم باروك ثم
حزقيال ثم دانيال ثم هوشع ثم يوئيل ثم عاموس ثم عوبديا ثم يونان ثم ميخا
ثم نحوم ثو حبقوق ثم صفنيا ثم هجاى ثم زكريا ثم ملاخى، على حين أن
الترتيب التاريخي هو عاموس، هوشع، أشعيا، ميخا، صفنيا، ناحوم، حبقوق،
إرميا، حزقيال، حجاى، عوبديا، زكريا، يوئيل، دانيال، وهذا ليس كلامنا نحن
بل كلام علمائكم.
(1/155) وينصره
نصراً مؤزراً، وكأمية بن أبي الصلت، الذي كان عازماً على الدخول في دعوته
والانضواء تحت رايته لولا أن وقعت غزوة بدر، وسقط بعض أقاربه قتلى بسيوف
المسلمين؟ ترى لم سكتوا فلم يقولوا: إن محمداً إنما تعلّم منا واستوحى
قرآنه من كلامنا؟ ولِمَ سكت كذلك أولاد من مات منهم قبل البعثة وأقاربهم
كما هو الأمر في حالة زيد بن عمرو بن نُفَيْل، الذي كان ابنه سعيد من
أوائل من لَبَّوْا دعوة الرسول ثم تبعه ابن عمه وصهره عمر بن الخطاب؟
(1/156)
واستُشْهِد في معركة أحد حيث بلغ تحريض أبيه وتآمره على النبي والمسلمين
المدى الأبعد.
(1/157) عليه
السلام والمثابرة على خدمته وخدمة دعوته بكل سبيل. وكانت قصص الأنبياء
والأمم السابقة وآدم وإبليس وغير ذلك قد أصبحت تملأ القرآ،، فلم تعد هناك
حاجة إلى ما في جعبة سلمان، أو كما قال أحدهم ذات مرة في سخافة حقيرة:
"إلى الكنز المعرفي الثمين" الذي كان في حوزة سلمان والذي يدَّعى ذلك
الأفاك ما ادّعى أفَاكنا الحالي أن الرسول عليه السلام كان يستمد منه.
(1/158) (185 -
186) . العبارات التي زعم الكذاب أن القرآن قد أخذها من هذا الشعر هي
العبارات التي تحتها خط. والله إنى لاستعجب من كل هذا الغباء الذي سوّل
للأحمق أن يقول هذا الذي قاله. تَعْساً لك يا عبد الفاضي وليومٍ ولدتك
فيه أمك! إنما ولدتْك للشقاء، فيا ويلك ثم يا ويلك! أهذا شعر يقوله امرؤ
القيس؟ إن الأبعد لا يشمّ، لأنه لو كان يشم لأغلق فمه المنتن فلم ينبس
ببنت شفة في هذا الموضوع. إن الركاكة تسربل الأبيات من بدايتها إلى
خاتمتها، ولم يكن الشعر الجاهلي يوماً (فضلاً عن أن يكون هذا الشعر لامرئ
القيس) ركيكاً بهذا الشكل المزري، ثم إن القصيدة تتغزل في غلام، ومتى كان
الجاهليون يتعزلون في الغلمان؟ إن هذه الظاهرة لم تنشأ إلا في العصر
العباسي يا أيها الغبي الأبلة!
(1/159) الأفكار
التي يستحيل خطورها في عقل أي شاعر جاهلي سواء كان المراد أن القمر قد
انشق فعلاً كما تقول بعض الروايات الخاصة بأسباب نزول الآية الأولى من
سورة "القمر" أو كان المراد مجرد الإشارة إلى أن القمر سينشق مستقبلاً مع
قيام الساعة على عادة القرآن في استعمال الفعل الماضي في كثير من الأحيان
للدلالة على أحداث القيامة والعالم الآخر. ذلك أنه على المعنى الأول يكون
"انشقاق القمر" معجزة من المعجزات، والجاهليون لم يكونوا يؤمنون
بالمعجزات، أما على المعنى الثاني فحتى الطائفة الضئيلة التي كانت تعتقد،
كما قلنا، اعتقادا عاماً في العالم الآخر لم يكن في ذهنها أن انشقاق
القمر هو من مقدمات القيامة، فما بالنا بامرئ القيس؟
(1/160) كانت
قصائدهم تعرف ألفاظاً وعبارات مثل "الطُرّة" و"عادة الأقمار" و"حِرْتَّ
في أوصافه" أو الركاكات التي تجعل الشاعر يكرر كلمة "أحور" في البيت
الثاني مرتين، أو جملة "دنت الساعة وانشق القمر" في أول القصيدة وآخرها
دون أدنى مسوّغ إلا الهذر والإسهال اللفظي؟ أم هل جمع أي شاعر جاهلي كلمة
"قمر" كما في البيت السابع من القصيدة التافهة التي بين أيدينا؟ أم هل
يمكن أن يخضع أي شاعر جاهلي لضرورة القافية بحيث يقول: "سطراًَ مختصر"
بدل "سطراً مختصراً"، أو أن يخطئ فيقول: "لحاظ فاتكٍ" بدلاً من "لحاظ
فاتكة"؟
(1/161) أقْبلَ
والعشّاق من خلفه ... كأنهم من حَدَبٍ يَنْسِلون
(1/162) تماماً في
هذه المسألة، فعلام يدل هذا؟ وكيف تواتيك نفسك أيها المتنطع الكذوب بعد
أربعة عشر قرناً من الزمان على توجيه مثل هذا الإتهام؟ إن الحياء هو
خُلُق الكرام، وأنتم قوم لا تستحون، تماماً مثل المومس التي يعرف الناس
جميعاً عهرها وفضائحها، ومع ذلك فإنها لا تشعر بذرة من خجل بل تقف في
الشارع وتصيح بملء صوتها العاهر أنها أشرف نم كل نساء الدنيا وأنها
وأنهن! أهذا غاية ما عندكم ممت تتهمون به سيد الخلق؟ أكل هذا من أجل أن
دينه قد أنكر التثليثَ ووراثةَ الخطيئة وأبوّةَ الله لواحد من عبادة
وشُرْبَ الخمر وأكْلَ الخنزير وتَرْكَ الختان؟ لقد ظلت حربكم هذه
العَوَان مشنونة عليه وعلى دينه طوال القرون الأربعة عشر الخالية، ولكنها
لم تؤدّ بكم إلى شيء! وإنكم لتظنون أن الهوان الذي أصاب المسلمين في هذه
اليام النَّحِسات هو فرصتكم الذهبية للقضاء على دين سيد الخلق، وأنتم في
ذلك واهمون وهم النائم الذي لم بتغطَّ جيداً فبانت سوأته وهو يحلم
الأحلام ويظنها حقائق! إنكم لتناطحون جبلاً أشمّ، ولقد فقد عقلَه من
تسوَل له نفسه أنه يستطيع تدمير الجبال بقَرْنىْ صرصور!
(1/163) {فَإِنْ
كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ
يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ
رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (يونس/94) دليلاً على إنه
- صلى الله عليه وسلم - كان يشكّ في نبوته، فكيف يتوقع إذن من سامعيه أن
يصدّقوه؟ ثم يستشهد بقول بولس إلى أهل غلاطية (1/8) : "إنْ بشَّرناكم نحن
أو ملاك من السماء بغير ما بشّرناكم فليكن أناثيماًَ (أي واقعاً تحت
لعنة) " على أن هناك فرقاُ بين محمد، الذي يشك في الوحي الذي ينزل عليه،
وبين بولس الواثق فيما كان يبشرّ به حسب كلامه (ص 82 - 83) .
(1/164) سمعه
قبلاً من ورقة بن نوفل. ومع ذلك فإنه عليه السلام لم يشكّ ولم يسأل، وقد
وردت الروايات بذلك، إذ كان جوابه عندما نزلت عليه تلك الآية. "أنا لا
أشكّ ولا أسأل". وحتى لو كان عليه السلام قد توقف أمام هذا الحديث العجيب
الذي حوّل حياته وحياة البشرية ومسيرتها الحضارية تحويلاً، فماذا في هذا؟
إنه يدل على أنه لم يخترع الوحي كما يفترى عليه أعداء الإسلام، إذ
المخترع لا يشك ولا يتوقف، فضلاً عن أن يعلن هذا على الملأ، وإنما كان
يبغي اليقين المطلق، وهذه قمة الموضوعية. وعلى أية حال فإن حرف الشرط
"إنْ" الموجود في أول الآية الكريمة موجود أيضاً في أول عبارة بولس: "إنْ
بشّرناكم ... إلخ"، فهل يقول المتنطع الجهول إن بولس يعترف بأن من الممكن
أن يبشّر أهل غلاطية بغير ما كان يبشرهم فعلاً به؟ ولقد خاطب الله رسوله
قائلاً: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ
الْعَابِدِينَ} ، ومستحيل في الإسلام وفي منطق العقل أن يكون لله ولد.
ألا يرى العبد الفاضي أنه كالحمار يحمل أسفاراً؟
(1/165) اتفق عليه
مع أبيه (أو بالأحرى: مع إلهه طبقاً لكلامه هو) من إنه سيُصْلَب تكفيراً
عن خطايا البشرية، فأخذ يبكي ويصيح عبثاً دون جدوى! فذلك هو الذي ينبغي
أن يشغل ذلك المتنطعُ به نَفْسَه لا بتقحُّم تفسير القرآن برعونة وجهل!
هذا، ولا أريد أن أشير إلى اجتراء إبليس على المسيح (وهو الله عندهم)
وأخذه إياه إلى قمة الجبل كي يخابر إيمانه، ولا إلى تعميدِ يحيى عليه
السلام له، أي تعميد العبد للربّ ... إلخ، وهو كثير!
(1/166) عليهما
بحكم آخر أخفّ؟ ولقد عبث اليهود فعلاً بتوارتهم، إلا أن هناك مواضع
وأحكاماً فيها لم تمسسها يد العبث، ومنها رجم الزناة. فهل إذا قال القرآن
الكريم إن حكم الزني الموجود في العهد العتيق هو حكم صحيح كان معناه أن
كل ما في ذلك الكتاب صحيح؟ أما قوله - عز وجل -: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ
الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} فهو يتحدث عما أنزله
الله على عيسى لا ما أضافته أو حرفته يد الإفساد. ولقد كان مما أنزله
الله على عيسى التبشيرُ بنبوة محمد، وهو مما أمر الله أهل الإنجيل أن
يحكموا به فيدخلوا في دين محمد ويعتنقوا التوحيد بدل التثليث ويَعِفّوا
عن لحم الخنزير وما إلى ذلك مما أدخله بولس وأمثاله في ديانة عيسى، وهي
منه براء، فهذا هو معنى الآية، لكن القلوب الغُلْف لا تفهم!
(1/167)
|
|