السنة النبوية وحي آيت سعيد
الكتاب: السنة النبوية وحي من الله محفوظة كالقرآن الكريم
مقدمة:
(1/1) تتلمذوا
لهم، وكانوا واسطة في نقل مفترياتهم إلى العالم الإسلامي، ولئن كانت هذه
الشبه ليست بجديدة من المستشرقين -لأن المعتزلة والشيعة قد سبقوهم إلى
كثير منها- إنَّ ما يجمع بين حديثها وتليدها، هو توهين السنة في النفوس،
وإزاحةُ تعظيمها، وقدسيتها، وعدّها أمرا عاديا لايستوجب الاعتناء.
(1/2) تعريف
السنة:
(1/3) ج - أقسام
السنة: تنقسم السنة إلى الأقسام الثلاثة المذكورة في التعريف:
(1/4) وثانيها:
الوحي بواسطة الملك، وهذا هو الغالب.
(1/5) وثالثتها:
أن يأتيه الملك في النوم، فيوحي إليه ما شاء الله، كما في قصة إبراهيم مع
ابنه إسماعيل الذبيح، وكقوله صلى الله عليه وسلم من حديث معاذ: " أتاني
ربي، فقال: يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى … الحديث (1) .
(1/6)
تمهيد:
(1/7) لذاته،
وإنمَّا لمِاَ يلحقه من الأغراض، ونقل الحافظ في الفتح عن الخطابي أنه
قال: " البيان اثنان: أحدهما ما تقع به الإبانة عن المراد بأي وجه كان،
والآخر ما دخلته الصنعة بحيث يروق للسامعين، ويستميل قلوبهم، وهو الذي
يشبه بالسحر إذا خلَب القلب، وغلب على النفس، حتى يحوِّل الشيءَ عن
حقيقته، ويصرفَه عن جهته، فيلوحَ للناظر في معرض غيره، وهذا إذا صَرف إلى
الحق يمدح، وإذا صَرف إلى الباطل يذم، قال: فعلى هذا، فالذي يشبه بالسحر
منه هو المذموم " ا?.
(1/8) وكيف
يُذَم البيان وقد امتن الله به على عباده حيث قال: {خَلَقَ الْأِنْسَانَ,
عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن3-4] (1) .
(1/9) وهذا
يستدعي حقيقة هامة، أغفلها كثير ممن يتعاملون مع الوحيَيْن قديما وحديثا،
وهي أن من لم يتمكن من ناصية الأدب واللغة العربية، فلن يكون فهمه في
عمومه سليما لهذين الوحيين، لأنهما في قمة سامقة من جوامع كلم البلاغة،
فالتعامل معهما يستوجب استعدادا خاصا.
(1/10) السنة
النبوية وحي من الله، محفوظة كالقرآن
(1/11) ومنها أن
بعض الخوارج، جوزت الكفر على الأنبياء قبل البعثة، حكاه صاحب "المواقف"
وزعم هو أنه لم يقم دليل سمعي على امتناع صدور الكبائر منهم قبل النبوة
(1) .
(1/12) والعصمة
شرعا: قد اختلف المتكلمون في تعريفها اختلافا كثيرا أدى إلى تناقضهم
وافتراضهم أموراً لا وجود لها إلا في أذهانهم، وكل منهم ينطلق في النظر
للعصمة من منحاه العقدي (1) . وأقربُ التعاريف للصواب، هو قول ابن النجار
" إن العصمة صرف دواعي المعصية عن المعصية، بما يلهم الله المعصوم من
ترغيب وترهيب" (2) .
(1/13) وقال
الزركشي:" والكلام في العصمة يرجع إلى أمور: أحدها في الاعتقاد، ولاخلاف
بين الأمة في وجوب عصمتهم عما يناقض مدلول المعجزة، وهو الجهل بالله
تعالى، والكفر به. وثانيها: أمر التبليغ، وقد اتفقوا على استحالة الكذب
والخطأ فيه. وثالثها في الأحكام والفتوى، والإجماعُ على عصمتهم فيها، ولو
في حال الغضب، بل يُستَدل بشدة غضبه صلى الله عليه وسلم على تحريم ذلك
الشيء. ورابعها في أفعالهم وسيرهم، فأما الكبائر فحكَى القاضي إجماع
المسلمين أيضا على عصمتهم فيها، ويلحق بها ما يُزْرِي بمناصبهم، كرذائل
الأخلاق والدناءات، وإنما اختلفوا في الطريق، هل هو الشرع أو العقل " …
(1) .
(1/14) وأما
وقوعها منهم، فقد قال به ابن السمعاني، ونقل ابن القشيري وإمام الحرمين
عن الأكثرين عدم الوقوع، ورجحه الزركشي في البحر المحيط، وهو مذهب أبي
بكر بن مجاهد، وابن فورك، ونقل عياض وقوعها منهم عن أبي جعفر الطبري
وغيره من الفقهاء (1) . هكذا نقل الزركشي وعياض عن هؤلاء، ونقل عنهم ابن
حزم خلاف هذا الإطلاق بقوله:"وذهبت طائفة إلى أن الرسل عليهم الصلاة
والسلام لا يجوز عليهم كبيرة من الكبائر أصلا، ويجوز عليهم الصغائر
بالعمد، وهو قول ابن فورك الأشعري، وذهب جميع أهل الإسلام من أهل السنة،
والمعتزلة، والنجارية، والخوارج، والشيعة، إلى أنه لا يجوز البتة أن يقع
من نبي أصلا معصية بعمد، لا صغيرة ولا كبيرة، وهو قول ابن مجاهد الأشعري
شيخ ابن فورك، والباقلاني المذكورين، وهذا القول الذي ندين الله تعالى
به، ولا يحل لأحد أن يدين بسواه " (2) .
(1/15) وسبب
الخلاف في وقوعها منهم أو عدم وقوعها، اختلافهم في تقسيم الذنوب إلى
صغائر وكبائر، فذهب أبو إسحاق الاسفراييني إلى أن الذنوب كلها شيء واحد،
لأنها مخالفة أمرالآمر، وتبعه الجويني بقوله:" المرضي عندنا أن كل ذنب
كبيرة، إذ لاتراعى أقدار الذنوب حتى تضاف إلى المعصي بها" (1) ثم في فصلِ
عصمة الأنبياء، ذكَر ما يدل على أنه يقر بالتقسيم (2) .
(1/16) وهؤلاء
مخالفون للقرآن، ومن اتبع القرآن على ما هو عليه من غير تحريف، كان من
الأمة الوسَط، مهتديا إلى الصراط المستقيم (1) .
(1/17) النصوح
التي يقبلها الله، يرفع بها صاحبها إلى أعظمَ مما كان عليه، كما قال بعض
السلف: كان داودُ عليه السلام بعد التوبة خيراً منه قبل الخطيئة.
(1/18) وأحاديثُ
النبي صلى الله عليه وسلم في انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر، أكثر من أن
تحصى، منهاقوله من حديث أبي بكرة: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر" فكررها
ثلاثا (1) ويقابل هذا الغلو في نفي التقسيم غلو آخر، يرى أصحابه أنه صلى
الله عليه وسلم لاتقع منه صغائر لا عمدا ولاسهوا، وقد نقل هذا المذهبَ
إمامُ الحرمين وابن القشيري عن الأكثرين (2) وردوا عشرات النصوص
المتواترة الدالة على ذلك في الكتاب والسنة، من مثل قوله تعالى:
(1/19) مراد الله
تعالى، إلا أنه تعالى لا يقرهم على شيء من هذين الوجهين أصلا، بل ينبههم
على ذلك ولا يداثر (1) وقوعه منهم، ويظهر عزوجل ذلك لعباده ويبين لهم،
كمافعل نبيُّه في سلامه من اثنتين، وقيامه من اثنتين، وربما عاتبهم على
ذلك بالكلام كما فعل مع نبيه عليه السلام في أمر زينب أم المؤمنين، وطلاق
زيد لها - رضي الله عنهما - وفي قصة ابن أم مكتوم رضي الله عنه " (2) .
(1/20)
المبحث
الثاني: في اجتهاد الأنبياء عليهم السلام
(1/21) الثاني:
ذهب الجمهور ـ من الشافعية والمالكية والحنابلة، والحنفية ـ بشرط انتظار
الوحي واليأسِ من نزوله عندهم – وبعضِ الأشاعرة، والقاضي عبد الجبار،
وأبي الحسين البصري من المعتزلة، واختاره ابن الحاجب، والغزالي،
والبيضاوي، وابن السبكي ـ إلى جواز ذلك لنبينا صلى الله عليه وسلم وغيره
من الأنبياء، ووقع منه صلى الله عليه وسلم، وإذا اجتهد فهل يصيب دائما
ولا يخطئ، أو يصيب ويخطئ كغيره من المجتهدين؟ فكل من قال بعصمته مطلقاً
فإنه يصيب عنده دائما، وهو مذهب أبي جعفر السجستاني أيضا حكاه بقوله:"
الله تعالى يصرفه عن الخطأ، ويهديه إلى الصواب " (1) .
(1/22) وهذا فيه
تصريح الشافعي بالمطلوب. ويعارضه ما نقله الواحدي في الوسيط من أَن مذهب
الشافعي الجواز وهو الصواب (1) .
(1/23) والثاني
وحي مروي منقول غير مؤلف ولا معجز ولا متلو، لكنه، مقروء، وهو الخبر
الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو المبين عن الله عزوجل مراده
منا، قال الله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}
[النحل:44] ووجدناه تعالى قد أوجب طاعة هذا القسم الثاني كما أوجب طاعة
القسم الأول الذي هو القرآن ولا فرق …. والقرآن والخبر الصحيح، بعضُها
مضاف إلى بعض، وهما شيء واحد في أنهما من عند الله تعالى، وحكمهُما حكم
واحد في وجوب الطاعة لهما …. ونحن إذ أطعنا أمر نبينا صلى الله عليه
وسلم، لِعِلْمنا أنه كله من عند الله عز وجل، وأنه لا يقول من تلقاء نفسه
شيئا " (1) .
(1/24) بعض
الأمور …. والجواب عن هذا من وجهين: الأول هو الذي اقتصر عليه ابن جرير،
وصدر به ابن الحاجب في مختصره الأصولي، أن معنى قوله تعالى:" وما ينطق عن
الهوى " أي في كل ما يبلغه عن الله " إن هو " أي كلُّ ما يبلغه عن الله
"إلا وحي" من الله، لأنه لا يقول على الله شيئا إلا بوحي منه، فالآية رد
على الكفار حيث قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم افترى هذا القرآن كما
قال ابن الحاجب. والوجه الثاني أنه إن اجتهد، فإنه إنما يجتهد بوحي من
الله، يأذن له به في ذلك الاجتهاد، وعليه فاجتهاده بوحي فلا منافاة" (1)
.
(1/25) فيما أوحى
إليه، ونذارتُه لهم كانت بالقرآن والسنة يقينا، فدل ذلك على أن السنة وحي
كالقرآن.
(1/26) القرآن
والحديث الصحيح متفقان، هما شيء واحد، لا تعارض بينهما ولا اختلاف، يوفق
الله تعالى لفهم ذلك من شاء من عباده، ويحرمه من شاء، لا إله إلا هو …
وصح بما ذكرنا بطلانُ قول من ضرب القرآن بعضه ببعض، أو ضرب الحديث الصحيح
بعضه ببعض، كضرب القرآن والحديث بعضهما ببعض …ونحن إنما أطعنا أمر نبينا
عليه السلام، لعلمنا أنه كله من عند الله، وأنه لا يقول من تلقاء نفسه
شيئا …" (1) .
(1/27) (7) قوله
تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي
إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس: 15] . قال ابن حزم: "
فلو أنه صلّى الله عليه وسلم شرَّع شيئا لم يوح إليه به، لكان مبدلا
للدين من تلقاء نفسه، وكل من أجاز هذا، فقد كفر وخرج عن الإسلام، وبالله
تعالى نعوذ من الخذلان " (1) .
(1/28) الجامعة
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7-8] (1) .
(1/29)
والاجتهادُ إنما يكون لضرورة، كفقدان النص أو إشكاله، والنبي صلى الله
عليه وسلم لا تتصور فيه هذه الضرورة، وإذا انتفى السبب انتفى المسبب.
(1/30) (6) النبي
صلى الله عليه وسلم ليس له أن يخبر بما لا يعلم صدقه، فكذلك ليس له أن
يحكم بما لا يعلم صوابه (1) .
(1/31) وإدراكه،
وتدبره، هو الاجتهاد، والنبي صلى الله عليه وسلم فيه كغيره، وهكذا جميع
الأمثلة المضروبة في القرآن، فهي على هذه الشاكلة.
(1/32) عليه وسلم
لأبي بكر وعمر: "ما ترون في هؤلاء الأسارى" فقال أبو بكر: يا نبي الله،
هم بنو العم والعشيرة، أَرى أن تأخذ منهم فدية، فتكونَ لنا قوة على
الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "ما ترى يا ابن الخطاب" قلت: لا وَاللهِ يا رسول الله، ما أرى الذي
رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكِّنَّا فنضربَ أعناقهم، فتمكنَ عليا من
عَقيل فيضربَ عنقه، وتمكِّنيِّ من فلان -نسيبا لعمر- فأضربَ عنقه، فإن
هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهوِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال
أبو بكر، ولم يهْوَ ما قلت، فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدَيْن يبكيان، قلت يا رسول الله، أخبرني عن
أي شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت
لبكائكما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبكي للذي عَرَض علي
أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عُرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة" -شجرة
قريبة من النبي صلى الله عليه وسلم- وأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ
لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} إلى
قوله: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} [الأنفال:69] فأحل
الله الغنيمة لهم" (1) .
(1/33) احتاج
لاستشارتهم، فلم يبق إلا استخراج الحكم بالاستشارة، وهي نوع من أنواع
الاجتهاد.
(1/34) خيرني
الله فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ
تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} [التوبة:80] وسأزيده على
السبعين، قال: إنه منافق، قال: فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأنزل الله: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا
تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:84] (1) .
(1/35) وفيه أنه
ربما أداه اجتهاده إلى أمر فيحكم به، ويكون في الباطن بخلاف ذلك، لكن مثل
ذلك لو وقع، لم يقَرَّ عليه صلى الله عليه وسلم لثبوت عصمته" (1) .
(1/36) ووجه
الدلالة من الحديث أن العباس لما بين للنبي مصلحة الإذخر استثناه، فلو
كان وحيا ما تأخر استثناؤه، ولساقه مع ما قبله مساقا واحدا، فلما استثناه
بعدَ ما روجع فيه، دل ذلك على اجتهاده فيه لمصلحته الراجحة.
(1/37) فيه، فمن
قضيت له لقضية أراها فقطَع بها قطعة ظلما، فإنما يقطع بها قطعة من نار "
(1) . ووجه الدلالة من الحديث، نصه صلى الله عليه وسلم على أنه يقضي
باجتهاده فيما لم ينزل عليه فيه وحي، وهو المطلوب.
(1/38) أن العرب
قد رمتكم عن قوس واحدة، وأن الحارث قد سألكم تشاطروه تمر المدينة، فإن
أردتم أن تدفعوه عامكم هذا.
(1/39) أنا بشر،
إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي، فإنما أنا
بشر".
(1/40) ج - وأما
الاعتبار، فقد استدلوا بأنه صلى الله عليه وسلم ليس كغيره من المجتهدين
فهو معصوم في اجتهاده، فلا يلزم منه ما يلزم في اجتهاد غيره من المحاذير،
فافترقا.
(1/41) سيد
المجتهدين، وإمام المستنبطين، فكيف يُستثنى من هذه الفضيلة العامة في
الجنس البشري، وتمُنح لمن دونه بدون دليل واضح يدل على الاستثناء؟
(1/42)
المبحث
الثالث: بسط أدلة القول بأن السنة وحي كالقرآن
(1/43) يحفظون
القرآن، إلا أنهم في حفظها يتفاوتون، فمنهم من يحفظها بلفظها ومعناها
فيؤديها كذلك، ومنهم من يحفظها بالمعنى، فيؤدي معناها بألفاظه هو، ومنهم
من يزاوج بينهما، ويجمعهم جميعاً همٌّ واحد، ضعوه نصب أعينهم عند الأداء،
وهو أن كل ماشك فيه، أولم يتحققه المتلقي، أو خاف أن يكون قد سها فيه،
فإنه يسقطه، ولا يضيفه للنبي صلى الله عليه وسلم ولا يرويه، وبهذا طمأنت
الأمة إلى أن كل ما وصلنا عنهم بطريقة مقبولة، مما أسندوه للمعصوم صلى
الله عليه وسلم فهو حق، وصدق، لأنهم لا يستجيزون أن يقولوا عليه مالم
يقل، لعلمهم بالوعيد الشديد الوارد في ذلك.
(1/44) ومقارنتها
وسماعها مرارا، فقد كان الرجل منهم يرحل في حديث واحد مسيرة شهر، وكان
يرحل في لقاء شيخ واحد من خراسان إلى حدود الصين، ولم يبق بلد فيه من
يُسمِع الحديث لم يُرْحَل إليه، فأسفرت هذه الرحلة عن تقعيد موازين دقيقة
حفظ الله بها السنة من الضياع، تحقيقا لوعد الله في كتابه، وإكراما لهذه
الأمة ونبيها، وهذه بعض تلك الموازين.
(1/45) د –
التدقيق في سير حَملة الحديث عن قرب، واختبار عدالتهم وضبطهم ومدى
موافقتهم أو مخالفتهم، فعرفوا بذلك كل واحد على حقيقته، ونزلوه منزلته،
بلا شطط، ولا تقصير.
(1/46) وقال يزيد
بن زريع: " لكل دين فرسان، وفرسان هذا الدين أصحاب الأسانيد " (1) .
(1/47) اجتهاده
ذلك، وأن تجعله سنة متبعة، وأما ما وقع فيه الخطأ من اجتهاده صلى الله
عليه سلم فإنه لايقر عليه ولايستمر فيه على الخطأ، ولايتوارث، بل يُنبَّه
على الصواب فينقل إليه، ويترك الخطأ، ويصبح ما انتقل إليه بوحي، تشريعا
له ولأمته، دون ماسبقه من الاجتهاد، ولهذا لا يجوز لأحد أن يأخذ باجتهاده
صلى الله عليه وسلم الذي نبه الوحي فيه للخطأ. هذا فحوى كلام الشافعي من
خلال نصوص الرسالة التي سيأتي بعضها. وهناك من جمع بوجه آخر كابن حزم
وغيره فقال: القضايا التي اجتهد فيها صلى الله عليه وسلم هي قضايا
دنيوية، ولاغضاضة عليه إن أخطأ فيها، إذ لاعلاقة لها بالتشريع، والتشريع
كله وحي. وهذا الوجه لا يخفى ما يرد عليه من اعتراضات، والصواب ماتقدم
مما ذهب إليه الشافعي وغيره.
(1/48) (1) وقوله
{وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ
مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ} [البقرة:231] . ووجه الدلالة من الآيتين
أن الله تعالى نص على أنه أنزل على رسوله الكتاب والحكمة، فدل ذلك على أن
السنة تنزل عليه كما ينزل عليه القرآن، بنص الآيتين، والحكمةُ لا يختلف
أهل العلم حيثما وردت في القرآن، أنها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ
اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34] . قال الشافعي –رضي الله عنه-: "
فذكر الله الكتاب وهو القرآن، وذكر الحكمة فسمعتُ من أرضى من أهل العلم
بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله، وهذا يشبه ما قال، لأن القرآن ذكر،
وأُتْبِعَتْهُ الحكمة، وذكر الله منَّه على خلقه بتعليمهم الكتاب
والحكمة، فلم يجز –والله أعلم- أن يقال: الحكمة ههنا إلا سنةُ رسول الله،
وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله، وأن الله افترض طاعة رسوله، وحتَّم على
الناس اتباع أمره، فلا يجوز أن يقال لقول فرْضٌ إلا لكتاب الله ثم سنةِ
رسوله، لما وصفنا من أن الله جعل الإيمان برسوله مقرنا بالإيمان به" ...
كل ماسن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ليس فيه كتاب - وفيما كتبنا في
كتابنا هذا - منْ ذِكْرِ ما منَّ الله به على العباد، من تعلم الكتاب
والحكمة، دليل على أن الحكمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ... " (1)
وبهذا قال عامة المفسرين.
(1/49) قال ابن
جرير في قوله تعالى {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ} [النساء:118] يعني: وأنزل عليك مع الكتاب الحكمةَ، وهي ما
كان في الكتاب مجملا ذكره من حلال وحرام، وأمره ونهيه وأحكامه، ووعده
ووعيده" (1) .
(1/50) صلى الله
عليه وسلم من أحكام دين الله، ولم ينزل به القرآن، وذلك السنة " ثم ساق
هذا المعنى بسنده عن قتادة (1) .
(1/51) والحاصل
أن أقوال المفسرين متفقة على أن الحكمة هي السنة، والآيتان الأُوليان
صريحتان في أنها تنزل عليه كما ينزل عليه القرآن.
(1/52) والتكلف "
(1) . قال الأصفهاني: " ووجه الاستدلال بها –كما قرره أبو علي الفارسي-
أن الإراءة إمَّا من الرأي الذي هو الاجتهاد، أو من الرؤية بمعنى
الإبصار، أو بمعنى العلم، لا جائزٌ أن يكون من الرؤية بمعنى الإبصار، لأن
المراد بـ"ما" في قوله تعالى {بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} هو الأحكام، وهي لا
تكون مبصَرة، ولا جائزٌ أن يكون من الرؤية بمعنى العلم، وإلا لوجب ذكر
المفعول الثالث لوجود ذكر المفعول الثاني، وهو الضمير الراجع إلى الموصول
... فتعين أن يكون بمعنى الرأي " (2)
(1/53) وأما
السنة فقد استُدل لهذا القول بأحاديث:
(1/54) بالإجماع،
فلم يبق إلا الثاني والثالث، وهما المطلوب.
(1/55) الخلوق
عنك، وأنق الصفرة، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجك " 1 ووجه الدلاله أنه
لم يُجِب السائل عن سؤاله إلا بعد ما جاءه الوحي بالجواب.
(1/56) فذكرت له
ما لقيت منه، وجعلت أشكو ما ألقى من سوء خلقه، قالت: فجعل رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: " يا خويلة، ابن عمك شيخ كبير، فاتقي الله فيه "
قالت: فوالله ما برحت حتى نزل فيّ، فتغشى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم
ما كان يتغشاه، ثم سري عنه فقال لي: " ياخويلة قد أنزل الله فيك وفي
صاحبك، ثم قرأ علي {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ}
[المجادلة:1] ... " الحديث (1)
(1/57) " اكتب
فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق " 1 ووجه الدلالة أن النبي صلى الله
عليه وسلم وصف ما يتكلم به في حال الغضب والرضا بأنه حق، فدل ذلك على أن
ما يقوله، كان بوحي، سواء كان كتابا أو سنة، لأن الحق وقع منَكَّرا في
سياق النفي، فيفيد العموم.
(1/58) حتى نزلت
آية المواريث"1 ووجه الدلالة أنه لم يجبه حتى جاء الوحي بجوابه، فدل على
أنه لا يجيب إلا بوحي، فلو كان يجتهد في الأحكام لاجتهد في جواب هذا
السؤال، مع قيام الداعي، والحاجة الملحة، فلما انتظر الوحي، أفاد ذلك أنه
لا يقول إلا بوحي، وهو المطلوب.
(1/59) (10) حديث
ابن مسعود قال: بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرث وهو
متكئ على عسيب – إذ مر اليهود، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، فقال: "
ما رَابَكُم إليه " وقال بعضهم: لا يستقبلكم بشيء تكرهونه، فقالوا: سلوه،
فسألوه عن الروح، فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليهم شيئا،
فعلمت أنه يوحى إليه، فقمت مقامي، فلما نزل الوحي قال {وَيَسْأَلونَكَ
عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ
الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:85] 1. ووجهُ الدلالة أنه صلى الله
عليه وسلم توقف فلم يرد حتى جاءه الوحى بالجواب.
(1/60) فلاعَن
بينهما أمر الله تعالى في اللعان ثم فرق بينهما، وألحق الولد بالمرأة،
ونفاه عن الأب ... فكانت هذه أحكاما وجبت باللعان ليست باللعان بعينه،
فالقول فيها واحد من قولين: أحدهما أني سمعت من أَرضى دينه وعقله وعلمه
يقول: إنه لم يقض فيها ولا غيرِها إلا بما أمر الله تبارك وتعالى، وقال:
فأمر الله إياه وجهان: وحي ينزله فيتلَى على الناس، والثاني رسالة تأتيه
عن الله تعالى بأن افعل كذا فيفعله ... " (1)
(1/61) يجتمعان
ويتفرعان- أحدهما ما أنزل الله فيه نص كتاب، فبين رسولُ الله مثلَ ما نص
الكتابُ، والآخر مما أنزل الله فيه جملةَ كتاب: فبين عن الله معنى ما
أراد، وهذان الوجهان اللذان لم يختلفوا فيهما، والوجه الثالث: ما سن رسول
الله فيما ليس فيه نص كتاب، فمنهم من قال: جعل الله له بما افترض من
طاعته، وسبق في علمه من توفيقه لرضاه أن يسن فيما ليس فيه نص كتاب. ومنهم
من قال: لم يسن سنة قط إلا ولها أصل في كتاب ... ومنهم من قال: بل جاءته
به رسالة الله، فأُثبِتت سنته بفرض الله. ومنهم من قال أُلقي في رُوعه كل
ماسن، سنتُه، الحكمةُ الذي أُلقي في روعه عن الله، فكان ما أُلقي في روعه
سنتَه. قال الشافعي: فكان مما ألقى في روعه سنته، وهي الحكمة التي ذكر
الله، وما أنزل به عليه كتاب، فهو كتاب الله، وكلٌّ جاءه من نعم الله كما
أراد الله، وكما جاءته النعم تجمعها النعمة وتتفرق بأنها في أمور بعضها
غير بعض...... وأي هذا كان، فقد بين الله أنه فرض فيه طاعة رسوله، ولم
يجعل لأحد من خلقه عذرا بخلاف أمر عرفه من أمر رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وأنْ قد جعل الله بالناس كلهم الحاجة إليه في دينهم، وأقام عليهم
حجته بما دلهم عليه من سنن رسول الله معاني ما أراد الله بفرائضه في
كتابه، ليَعلم من عَرف منها ما وصفنا، أن سنته صلى الله عليه وسلم كانت
سنة مبينة عن الله معنى ما أراد من مفروضه فيما فيه كتاب يتلونه، وفيما
ليس فيه نص كتاب، أخرى – فهي كذلك أين كانت، لا يختلف حكم الله ثم حكم
رسوله، بل هو لازم بكل حال" (1) .
(1/62) لايقول
فيما أنزل الله عليه إلابما أنزل عليه، وأنه لايخالف كتاب الله، وأنه بين
عن الله عز وجل معنى ما أراد الله "1. وهذا كلام ناصر السنة، وقد نقلناه
بطوله، لتنصيصه على أن السنة وحي كالقرآن، سواء كانت وحيَ إرسال، أو
إلهام، أوسداد وتوفيق.
(1/63) فيها في
الأصل، لأنه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بينا أنه قال ذلك عن
وحي، وقد علمنا بالنص أنه لا اختلاف فيما هو من عند الله، قال تعالى
{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً
كَثِيراً} [النساء:82] وإنما الاختلاف في الأخبار من جهة الرواة، والحجة
هو الخبر لا الراوي" (1) .
(1/64) بالوحي،
وإن لم يكن قرآنا، كما سئل عن رجل أحرم في جبته...... ولا فرق بين ما
يبلغه عنه من كلامه المتلو، من وحيه الذي هو نظير كلامه، في وجوب
الاتباع، ومخالفةُ هذا كمخالفة هذا "1
(1/65)
الخاتمة
(1/66) كلي آخر
يشمله، أو لاحتماله وجها صحيحا يرد به إلى كيله الصريح. وإذا أخذت أقسام
الوحي المذكورة في الاعتبار –كما ذكر الشافعي وغيره- فإن الإشكال يزول من
أساسه، فيصبح بذلك أن السنة المقبولة وحي، ويترتب على ذلك تعظيمها والبحث
عنها، والعمل بها. أسأل الله عز وجل بأسمائه وصفاته وبمحبة نبيه صلى الله
عليه وسلم أن يوقفنا للعمل بها، والائتساء بصاحبها، إنه ولي ذلك والقادر
عليه.
(1/67)
مصادر ومراجع
(1/68) - البحر
الزخار – المعروف بمسند البزار، للحافظ أبي بكر، أحمد بن عمرو ابن عبد
الخالق ت، د، محفوظ الرحمان زين الله، مكتبة العلوم والحكم، المدينة
النبوية، ط الأولى 1409هـ.
(1/69) - جامع
بيان العلم وفضله، لأبي عمر، يوسف بن عبد البر، ت، أبي الأشبال الزهيري،
دار ابن الجوزي، ط الأولى 1414هـ.
(1/70) - سنن أبي
داود، للحافظ سليمان بن الأشعث، تعليق محمد فؤاد، دار الفكر.
(1/71) - الفتاوى
لابن تيمية: أحمد بن عبد الحليم، جمع وترتيب، عبد الرحمان بن محمد بن
قاسم، مكتبة المعارف، الرباط، المغرب، بلا تاريخ.
(1/72) - المحصول
في علم أصول الفقه للفخر الرازي ت، طه جابر العلواني، مؤسسة الرسالة، ط
/2/1412هـ.
(1/73) - النبذ
في أصول الفقه الظاهري، لابن حزم: علي بن أحمد القرطبي، ت، محمد صبحي حسن
حلاق، دار ابن حزم، ط، الأولى 1413هـ
(1/74)
|
|